قالوا: أنَّ عائشة آذت النبيّ في قصة المغافير.
أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ، قال:” سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ: أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: “لاَ، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ”، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم:1] إِلَى قال تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] لِقَوْلِهِ: “بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا” .
[صحيح البخاري، (7/ 44)].
قال الأدربيلي: “وفي هذا السبب شيء عظيم لحفصة ولعائشة أعظم حيث كذبت وغدرت وفتنت وأمرت بهذه المناكير ، وحصل الأذى للنبيّ صلى الله عليه وآله بذلك حتّى حرّم على نفسه ذلك، واعتزل من النساء، ونزلت هذه الآية الّتي تشعر بتوبيخه صلوات الله عليه مع معلوميّة إثم أذاه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله من قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61] ومن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا} [الأحزاب:57] ومن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب:58]، وفي الأخبار ما يدلّ على أنّ أذاه أذى الله تعالى”.
[زبدة البيان في أحكام القرآن، المقدّس الأردبيلي (ص 565)].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: أن هذا ليس من باب الكذب على رسول الله ؛ وإنما من باب التعريض.قال ابن حجر: “وَقَالَ ابن الْمُنِيرِ: إِنَّمَا سَاغَ لَهُنَّ أَنْ يَقُلْنَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَوْرَدْنَهُ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ بِدَلِيلِ جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ (لَا) وَأَرَدْنَ بِذَلِكَ التَّعْرِيضَ لَا صَرِيحَ الْكَذِبِ، فَهَذَا وَجْهُ الِاحْتِيَالِ الَّتِي قَالَتْ عَائِشَة: لتحتالن لَهُ وَلَوْ كَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَمْ يُسَمَّ حِيلَة؛ إِذْ لَا شُبْهَة لصَاحبه”.
[ فتح الباري، ابن حجر (12/ 344)].
ثانيًا: حصول مثل هذه الأمور بين الأزواج بدافع الغيرة، أمر وارد وطبيعي، خاصة مع ما جبلت عليه المرأة من الغيرة الشديدة.
قال العيني: “فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ لعَائِشَة وَحَفْصَة الْكَذِب والمواطأة الَّتِي فِيهَا إِيذَاء رَسُول الله ؟ قلت: كَانَت عَائِشَة صَغِيرَة مَعَ أَنَّهَا وَقعت مِنْهُمَا من غير قصد الْإِيذَاء، بل على مَا هُوَ من جبلة النِّسَاء فِي الْغيرَة على الضرائر وَنَحْوهَا”.
[عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني (19/ 249)].
وقال القسطلاني: “فإن قلت: كيف جاز على أزواجه -رضي الله عنهن- الاحتيال؟ أجيب: بأنه من مقتضيات الطبيعة للنساء في الغيرة وقد عفي عنهن”.
[ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني (10/ 112)].
وقال في موضع آخر: “وهذا منها على مقتضى طبيعة النساء في الغيرة، وليس بكبيرة بل صغيرة معفوّ عنها مكفّرة”.
[ إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني (8/ 141)].
وقال محمد آدم الإثيوبي: “بيان ما جُبلت عليه النساء من الغيرة، وأن الغيراء تُعذر فيما يقع منها من الاحتيال فيما يدفع عنها ترفع ضرّتها عليها بأيّ وجه كان، وقد ترجم عليه البخاريّ في (صحيحه) في (كتاب الحيل) (باب ما يكره من احتيال المرأة من الزوج والضرائر)”.
[ ذخيرة العقبى في شرح المجتبى، محمد آدم الإتيوبي (28/223)].
ثالثًا: روى الرافضة في كتبهم عن فاطمة رضي الله عنها وعن غيرتها الشديدة على زوجها، حتى أنها غضبت منه وتركت البيت لما سمعت بخبر خطبته لابنة أبي جهل.
روى المجلسي في (بحار الأنوار) رواية جاء فيها: “… إنه جاء شقي من الاشقياء إلى فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله فقال لها: أما علمت أن عليا قد خطب بنت أبي جهل؟ فقالت: حقا ما تقول؟ فقال: حقًّا ما أقول، ثلاث مرات. فدخلها من الغيرة ما لا تملك نفسها وذلك أن الله تبارك وتعالى كتب على النساء غيرة وكتب على الرجال جهادًا، وجعل للمحتسبة الصابرة منهن من الاجر ما جعل للمرابط المهاجر في سبيل الله، قال: فاشتد غم فاطمة من ذلك، وبقيت متفكرة هي حتى أمست وجاء الليل حملت الحسن على عاتقها الأيمن والحسين على عاتقها الأيسر وأخذت بيد أم كلثوم اليسرى بيدها اليمنى ثم تحولت إلى حجرة أبيها”.
[بحار الأنوار، المجلسي (43/ 201)].
فالغيرة الشديدة جعلت فاطمة رضي الله عنها تصدق كلام هذا الشقي، بل تخرج من البيت بغير إذن زوجها، حتى إذا رجع لم يجدها فيه، أفتلام فاطمة رضي الله عنها على هذا الأمر؟ أم أنه أمر جبلي فطرت عليه النساء كما ورد في الرواية؟
قال التبريزي: “ثم نقول: إن وقوع الواقعة على ما نقل لا يقدح أيضا بأحد الطرفين، أما علي (عليه السلام)؛ فلأن هذا أمر مباح أباحه الشريعة، وإن كتب الغيرة على الزوجة أيضًا، فللرجل أن يتزوج على المرأة، وللمرأة أن تأخذها الغيرة، وأما فاطمة (عليها السلام) فأولا: بأن الغيرة من الصفات الفاضلة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يتمدح بها”.
[اللمعة البيضاء، التبريزي الأنصاري (ص143)].
فإن كان هذا الأمر الذي صدر من فاطمة رضي الله عنها مدحًا لها، لكون الدافع له هي الغيرة وهي من الصفات الفاضلة، فيلزم عليه أن ما ورد عن أم المؤمنين رضي الله عنها من هذا القبيل أيضًا.وقد تفطن لهذا اللازم الخطير محقق الكتاب، فقال في الهامش: “هذا الاستدلال مخدوش من عدة جهات… وثانيا: لو كانت الغيرة -حتى في النساء- من الصفات الفاضلة، لكانت عائشة أكثر فضلاً من الزهراء عليها السلام؛ لشدة غيرتها وحسدها على خديجة وفاطمة عليها السلام”.
فالرافضة بين خيارين:
1- إما أن تكون غيرة فاطمة من الصفات الفاضلة، وهذا يلزم عليه ما ذكره المحقق من فضيلة عائشة لكونها أكثر نساء النبيّ غيرة عليه.
2- وإما أن تكون هذه الغيرة من الصفات المذمومة، فيلزم من هذا الطعن في فاطمة رضي الله عنها.
رابعًا: أن كان إيذاء عائشة رضي الله عنها -بحسب زعمهم- لرسول الله دليل على كفرها، أو نفاقها وحاشاها، وإيذاء لله تعالى.
فما جوابهم عن إيذاء فاطمة لزوجها رضي الله عنهما، هل ينطبق عليه نفس الحكم أم يختلف؟ وخاصة إذا كان الأمر باعتراف صاحبة الشأن.
قال المجلسي: “وعاديًّا … إما من قولهم: عدوت فلانا عن الأمر … أي صرفته عنه، أو من العدوان بمعنى تجاوز الحد، وهو حال عن ضمير المخاطب … أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني، أو حال تجاوزك الحد في القعود عن نصري… أي عذري في سوء الأدب أنك قصرت في إعانتي والذب عني“([10]).
[بحار الأنوار، المجلسي (29/ 319)].
وقال عبد الله شبر: “عَذيري أي: عاذري ومعذري اللّه ُ منك، أي: من أجل الإساءة إليك و إيذائك حال كونك عاديًّا، أي: صارفًا للمكاره عنّي، أو متجاوز الحدّ في القعود عن نصري ومنك حاميًا و«عذيرى اللّه» مرفوعان بالابتدائيّة والخبريّة ، و«عاديا» إمّا من قولهم «عَدَوتُ فلانا عن الأمر» أي صَرفتُه عنه، أو مِن العُدوانِ بمعنى تجاوُز الحدّ ، وهو حال عن ضمير المخاطب، أي: اللّه يقيم العذر من قِبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفع الظلم عنّي، أو حال تجاوزك الحدّ في القعود عن نصرتي، أي: عذري في سوء الأدب تقصيرك في إعانتي والذبّ والحماية عنّي”.
[كشف المحجّة في شرح خطبة اللمّة، عبدالله شبر (1/ 440)].
وقال أحمد الهمداني: “العذير بمعنى العاذر، كالسميع، أو بمعني العذر كالأليم. وقولها «منك» أي: من أجل الإساءة إليك وإيذائك. و«عذيري اللّه» مرفوعان بالابتدائيّة والخبريّة”.و«عاديا» إمّا من قولهم: عدوت فلانا عن الأمر، أي صرفته عنه؛ أو من العدوان بمعنى تجاوز الحدّ، وهو حال عن ضمير المخاطب، أي: اللّه يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عنّي، أو حال تجاوزك الحدّ في القعود عن نصري، أي عذري في سوء الأدب أنّك قصّرت في إعانتي والذبّ عنّي”.
[فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى، أحمد الرحماني الهمداني، (ص 364)].
وقال التبريزي: “قولها (عليها السلام): (ومنك حاميا)، أي: الله يقبل عذري أيضا في إساءتي إليك، وإيذائي إياك بالمخاطبة الخشنة، والمكالمة الغليظة في حال حمايتك عني، والحماية عن الرجل الدفع عنه. وفي بعض النسخ: عذيري الله منك عاديا ومنك حاميًا، أي: الله يقبل العذر أو يقيمه من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني، أو حال تجاوزك الحد في القعود عن نصري أي عذري في سوء الأدب وأنك قصرت في إعانتي والذب عني“
[اللمعة البيضاء، التبريزي الأنصاري، (ص 735)].
فهذه النصوص وغيرها كثير فيه اعتراف فاطمة رضي الله عنها بإيذاء عليّ رضي الله عنه والإساءة إليه، والخروج عن الأدب معه، فهل يقول الرافضة أن فيها طعنا في المعصومة؟ أم يجدون لها المخارج كما هي عادتهم؟
مواضيع شبيهة