حديث لا اشبع الله بطنه.
رام الشيعة الطعن في أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه بحديث رواه مسلم في صحيحه: “عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ، قَالَ فَجَاءَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، وَقَالَ: «اذْهَبْ وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِيَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» قَالَ: فَجِئْتُ فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: «لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ» قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: قُلْتُ لِأُمَيَّةَ: مَا حَطَأَنِي؟ قَالَ: قَفَدَنِي قَفْدَةً
[«صحيح مسلم» (4/ 2010 ت عبد الباقي)].
وانتظم كلامهم في ذلك في أمرين:
الأول: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية بألا يشبع بطنه
الثاني: تأخر معاوية عن تلبية طلب النبي صلى الله عليه وسلم والاستمرار في الأكل فكأنه لا يبالي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: فهم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على أنه طعن له سببان الأول: داخلة السوء والحقد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام.
الثاني: بُعدهم عن معرفة لغة العرب وعاداتهم في الكلام، وجوابا وبيانا منا لطالب الحق نقول: ليس كل دعاء عند العرب يكون على ظاهره وحقيقته وإنما يبين ذلك إما سياق الكلام فقد يكون لفظ الدعاء مما جرت عادة العرب بذكره دون قصد معناه، قال النووي في قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأم سليم : «تَرِبَتْ يَمِينُكِ»
[«صحيح مسلم» (1/ 250 ت عبد الباقي)].
” قال “وَأَمَّا قَوْلُهَا تَرِبَتْ يَمِينُكِ فَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا لِلسَّلَفِ والخلف من الطوائف كلها ولأصح الْأَقْوَى الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا كلمة أصلها افتقرت ولكن العرب اعتادت استعماله غَيْرَ قَاصِدَةٍ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ فَيَذْكُرُونَ تَرِبَتْ يَدَاكَ وَقَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ وَلَا أُمَّ لَهُ وَلَا أَبَ لَكَ وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ وَوَيْلُ أمه وما أشبه هذا من ألفاظهم يقولنها عند انكار الشئ أو الزجر عنه أزجر عَنْهُ أَوِ الذَّمِّ عَلَيْهِ أَوِ اسْتِعْظَامِهِ أَوِ الْحَثُّ عَلَيْهِ أَوِ الْإِعْجَابِ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ بَلْ أَنْتِ فَتَرِبَتْ يَمِينُكِ فَمَعْنَاهُ أَنْتِ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَكِ هَذَا فَإِنَّهَا فَعَلَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ السُّؤَالِ عَنْ دِينِهَا فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْإِنْكَارَ وَاسْتَحْقَقْتِ أَنْتِ الْإِنْكَارَ لِإِنْكَارِكِ مَا لا انكار فيه”
[النووي، شرح النووي على مسلم، ٢٢١/٣]
وعليه فليس كل دعاء يجري على اللسان يكون مقصودا من قائله، ومثل ما قال النووي في كلام أم المؤمنين عائشة قال في كلام النبي لمعاوية: “«وَأَمَّا دُعَاؤُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا يَشْبَعَ حِينَ تَأَخَّرَ فَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَرَى عَلَى اللِّسَانِ بِلَا قَصْدٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَأَخُّرِهِ وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب وجعله غيره من مناقب معاويةلانه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ»
[«شرح النووي على مسلم» (16/ 156)].
وكذلك قال القرطبي: “«و(قوله: لا أشبع الله بطنه) يحتمل أن يكون من نوع: لا كبر سنك»
[«المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (6/ 588)].
وبمثله أجاب ابن حجر الهيثمي فقال: فحينما أن هذا الدعاء جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم من غير قصد كما قال لأصحابه “”تربت يمينك ” ولبعض أمهات المؤمنين “عقرى حلقى” ونحو ذلك من الألفاظ التي كانت تجري على ألسنتهم بطريق العادة من غير أن يقصدوا معانيها.
[مختصر تطهير الجنان واللسان عن الخوض والتفوه بثلب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه – ابن حجر الهيثمي ص٩١].
وقد جاء ذلك في كتب الشيعة يقول الكاشاني في قوله: « تربت يداك » أي لا أصبت خيرا ، يقال ترب الرجل أي افتقر أي لصق بالتراب ، وأترب إذا استغنى . قال ابن الأثير : وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر بها كما يقولون : قاتله اللَّه ، وقيل معناها : لله درك ، قال وكثيرا ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم وإنما يريدون بها المدح ، كقولهم لا أب لك ولا أم لك“.
[الوافي، ج ٢١، الفيض الكاشاني، ص ٤٥].
ويقول المجلسي: “وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ، ولا وقوع الأمر به”
[مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج ٢٠، العلامة المجلسي، ص ٢٣].
فهذا اعتراف من الشيعة بأن المعصوم قد يدعو على أحد ولا بقصد ظاهر اللفظ.
ثانيا: قد جعل بعض أهل العلم ذلك الدعاء على حقيقته لكنه لا يضر معاوية في دينه إذ أن غايته أن تطول مدة أكله، ولئن قالوا إنها صفة ذم أن يكون الرجل اكولا فجوابه أن يقال إن الرجل إذا غُلب على صفة لا يستطيع الانفكاك منها فإنه يرتفع عنه الذم الشرعي لأن الله تعالى قال { لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۚ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٨٦]، وإذا ارتفع الذم الشرعي لم يجز لأحد أن يعيب في الشخص صفة لا يعيبه بها الشرع، والأمر الثاني أنه قد جاء في كتب الشيعة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي (إنك لأكول)، ففي كتاب الأخلاق لعبد الله شبر : “وروي أنه ( ص ) انه كان يأكل رطبا مع ابن عمه وأخيه أمير المؤمنين ، وكان يأكل ويضع النوى أمامه ، فلما فرغا كان النوى كله مجتمعا عند علي عليه السلام ، فقال له : يا علي انك لأكول . فقال له : يا رسول اللّه الأكول من يأكل الرطب ونواه” .
[الأخلاق، السيد عبد الله شبر، ص ١٥٠]،
[لئالي الأخبار، ج ١، محمد نبي بن أحمد التويسركاني، ص ٧٧]،
[الكشكول، ج ١، المحقق البحراني، ص ٨]،
[كشف الأسرار في شرح الاستبصار، ج ١، السيد نعمة الله الجزائري، ص ١٦٥، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج ٦، حبيب الله الهاشمي الخوئي، ص ٩٤].
فهذا اتهام من النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي أنه أكول، ولا يقال إن هذا كان في باب المزح فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا حقا، وانظر لجواب علي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يردها على النبي صلى الله عليه وسلم ويتهمه بانه هو الأكول!. والعجيب أنهم برروا لذلك بأن كل بني آدم أكول !يقول محمد باقر الحكيم: “وقال له : « يا علي إنك لأكول » ، لاحظوا الدقة في التعبير ، فإنه لا يقول له : أنت أكلت ( هذا التمر ) مثلا ، وإنّما قال له :( لأكول ) ، فالإنسان على كل حال أكول ، لأنّه يأكل ويشرب كما يأكل الآخرون ويشربون ، نعم لا بد أن يكون الحديث بالمزاح بهذه الطريقة ، كأنّه يوهم بأنّه ( أكل جميع هذا التمر ) ، وكان جواب الإمام علي عليه السّلام جميلا ودقيقا جدا أيضا ، إذ يقول له : « يا رسول اللّه الأكول من يأكل التمر ونواه » « 1 » ، يعني أنا أكلت التمر ، ولكن تركت النوى ،أما أنت فكأنك أكلت التمر ونواه ، إذ لا يشاهد الناظر النوى أمامك .
[الإخوة الإيمانية من منظور الثقلين، السيد محمد باقر الحكيم، ص ٩٩:١٠٠].
فسبحان من أذل الشيعة بشبهاتهم.
ومع ذلك فلم نجد رواية صحيحة عن معاوية أنه كان كثير الأكل جدا، وأن كان هناك تصريح من بعض المؤرخين كابن كثير لما قال وَقَدِ انْتَفَعَ مُعَاوِيَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ فِي الشَّامِ أَمِيرًا، كَانَ يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، يُجَاءُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ وَبَصَلٌ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، وَيَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ أَكَلَاتٍ بِلَحْمٍ، وَمِنَ الْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا أَشْبَعُ، وَإِنَّمَا أَعْيَى. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَمَعِدَةٌ يَرْغَبُ فِيهَا كُلُّ الْمُلُوكِ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدِ أَتْبَعَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا عَبْدٍ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَهْلًا، فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ “.» فَرَكَّبَ مُسْلِمٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةً لِمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُورِدْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ
[«البداية والنهاية» (11/ 402 ت التركي)].
وتصريح ابن كثير بكثرة الأكل لم نجد رواية صحيحة تؤيده، وإذا كان الصواب أن الدعاء لم يكن على حقيقته فلا ينسجم هذا التأويل مع كثرة الأكل -وإن كان لا ذم فيه- وقد جاء أن النبي قد دعاء ببعض الأدعية على بعض من لا يستحق -وإن كان نادرا- ولم يستجب لتلك الدعوات اتفاقا
جاء في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي “وَسُئِلَ نفع الله بِعُلُومِهِ: عَن الْجمع بَين قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخِذُ عنْدك عهدا لَا تُخْلِفْينه فَإِنَّمَا أَنا بشر فأيَّ الْمُؤمنِينَ آذيته أَو سَببْته أَو لعنْتُهُ أَو جَلَدْتُه فاجعلها لَهُ صَلَاة وَزَكَاة وقُربة تقربه بهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة). وَصَحَّ (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دفع إِلَى حَفْصَة رجلا وَقَالَ: احْتَفِظِي بِهِ، فغفلتْ عَنهُ وَمضى فَقَالَ لَهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قطع الله يدك ففزعتْ، فَقَالَ: إِنِّي سَأَلت رَبِّي تبَارك وَتَعَالَى أَيّمَا إِنْسَان من أمتِي دَعَوْت الله عَلَيْهِ أَن يَجْعَلهَا لَهُ مغْفرَة) وَبَين قَوْله: (اللَّهُمَّ مَنْ وليَ من أَمر أمتِي شَيْئا فشَقَّ عَلَيْهِم فاشْقُق اللَّهُمَّ عَلَيْهِ) فَإِنَّهُ بِالنّظرِ للحديثين الْأَوَّلين دُعَاء لَهُ لَا عَلَيْهِ فينافي المُرَاد؟ فَأجَاب بقوله: لَا مُنَافَاة لِأَن الْأَوَّلين فِي الدُّعَاء بِغَيْر سَبَب والأخير دُعَاء بِسَبَب. وَأَيْضًا فالأولان فِي دُعَاء على معِين والأخير على مُبْهم، وَقد صرح ابْن القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَن مِنْ خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجوز لَهُ الدُّعَاء على من شَاءَ بِغَيْر سَبَب، وَيكون فِيهِ من الْفَوَائِد مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثين الْأَوَّلين”.
[ابن حجر الهيتمي، الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيتمي، صفحة ١١٨]
وقد أقر الشيعة بانه ليس كل دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم يستجاب، يقول محمد جواد مغنية: ” والذي نراه ان حقيقة الدعاء ما هي إلا طلب ورجاء ، سواء أكان من نبي أم غير نبي ، وقد تستدعي حكمته تعالى الاستجابة فيستجيب ، أو الرفض فيرفض ، وليس معنى عدم الاستجابة ان الداعي لا وزن له عند اللَّه كي يضر ذلك بمقام النبوة ، وعصمة الأنبياء على فرض عدم الاستجابة لدعائهم . .كلا ، فإن رفض السؤال بمجرده لا ينبئ عن غضب المسؤول على السائل ، بل قد يدل على حبه له ، وحرصه على مصلحته ، فلقد طلب نوح ( ع ) من اللَّه نجاة ولده من الغرق ، فأجابه المولى بقوله : « فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ – 46 هود » . وبكلام آخر ان دعاء النبي لا يعبر إلا عن حبه ورغبته ، وليس من شك ان الأنبياء يحبون ويرغبون في ايمان الناس جميعا وهدايتهم إلى الحق ، ومع ذلك قال اللَّه لسيد المرسلين الأعظم : « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكِنَّ اللَّهً يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ – 56 القصص » . ولو تحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم ، ولما قاسى رسل اللَّه من الكفار والفجار ما قاسوه ، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال : ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت” .
[التفسير الكاشف، ج ٤، محمد جواد مغنية، ص ٤٥١].
وعليه نقول بأن الدعاء لم يستجب في معاوية رضي الله عنه وليس عندنا رواية صحيحة في ذلك .
ثالثا: الثابت عن معاوية رضي الله عنه أنه كان ازهد الناس في الدنيا، وإن كان أحيانا يلبس الجيد من الثياب لغرض سياسي لا غير ذلك، فقد روى ابن عساكر في تاريخه، وابن الي الدنيا في الحلم قال: «لما قدم عمر الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم؛ فلما دنا منه قال له عمر: أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما يبلغك من ذاك. قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به؛ فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت»
[«حلم معاوية لابن أبي الدنيا» (ص19)]،
[«تاريخ دمشق لابن عساكر» (59/ 112)]،
[«سير أعلام النبلاء – ط الرسالة» (3/ 133)].
فلم يكن التوسع الا لغرض شرعي صحيح، اما حال معاوية فإن الروايات قد جاءت متكاثرة في زهده في الدنيا ولبسه المرجع من الثياب حتى وهو على المنبر يخطب في الناس وفي السوق مع العامة .روى الإمام أحمد في الزهد: ” عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: «رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعٌ “»
[«الزهد لأحمد بن حنبل» (ص142)].
وقال ابن كثير: “«وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ فِي سُوقِ دِمَشْقَ وَهُوَ مُرْدِفٌ وَرَاءَهُ وَصِيفًا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْبِ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِ دِمَشْقَ»
[«البداية والنهاية» (11/ 438 ت التركي)].
ولذلك قال مجاهد فينا رواه عنه الأعمش: “لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ لَقُلْتُمْ هَذَا الْمَهْدِيُّ»
[«البداية والنهاية ت شيري» (8/ 143)].
وتقريرا لما ذكرنا يقول العلامة البرزنجي.«ولم نجد رواية صحيحة السند تحكي عن ترف معاوية – رضي الله عنه – في البناء والملبس والمركب لذلك أعرضنا عنها ويبدو لنا والله أعلم أن معاوية كان يهتم ببعض الشكليات المتعلقة بدار الخلافة إظهارًا لهيبة المسلمين أمام الروم المتاخمين للشام في الحدود الشمالية والذين لا يفهمون إلّا ظاهرًا من الحياة الدنيا ولكن معاوية – رضي الله عنه – لم يكن ليهتم بتلك الشكليات حين ينزل إلى السوق يختلط بالناس وحين يذهب إلى المسجد أو إلى الحج وما إلى ذلك ولم نجد رواية صحيحة تذكر عن موكب معاوية وخدمه وحشمه».
[«صحيح وضعيف تاريخ الطبري» (4/ 51)].
فهذا الزهد في الدنيا مع ما كاب يستطيعه معاوية من كثرة المنكح وجودة الملبس ووفرة المال كل هذا مما يدلنا على أنه من أكبر الزاهدين في الدنيا، ولا نقارن لي من وبين علي لكن إمعانا في إفحام الشيعة نقول بأن الشيعة قالوا بأن عليا كان يلبس حلة قيمتها ألف دينار
[الکافی- ط دار الحدیث المؤلف : الشيخ الكليني الجزء : 2 صفحة : 12].
وقد.كان لعلي من القرى والضياع الكثير حتى«قَالَ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ (5) : ” وَأَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فَقِيرًا يُعَالُ وَلَا يَعُولُ، ثُمَّ اسْتَفَادَ الْمَالَ: الرِّبَاعَ، وَالْمَزَارِعَ، وَالنَّخِيلَ، وَالْأَوْقَافَ، وَاسْتُشْهِدَ وَعِنْدَهُ تِسْعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً، وَأَرْبَعُ نِسْوَةٍ»
[«منهاج السنة النبوية» (7/ 480)].
وهذا لا ينفي زهد علي رضي الله عنه لكنه أيضا يدل على أنه تمتع بالحلال من الدنيا حتى أنه في وصيته للحسن ما يدل على كثرة الجواري عنده رضي الله عنه. فقال: “وَمَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي ـ اللاَّتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ ـ لَهَا وَلَدٌ، أَوْهِيَ حَامِلٌ، فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَهِيَ مِنْ حَظِّهِ، فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ، قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ، وَحَرَّرَهَا الْعِتْقُ”.
[اسم الکتاب : نهج البلاغة ت الحسون المؤلف : السيد الشريف الرضي الجزء : 1 صفحة : 609].
وعليه فلا يقال لمن يأكل الحلال من الطعام لماذا تستكثر منه في حين أن عليا كان مستكثرا من الجواري والنساء حتى أنه كان يتمنى الزواج وأن يكون عروسة لكن يمنعه من ذلك أن معه اربع نسوه. في الدعائم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي ( ص ) أنه قال يوما لجارية ( 2 ) له يقال لها أم سعيد ، وهي تصب الماء على يديه :يا أم سعيد . قالت : لبيك ، يا أمير المؤمنين ، قال : لقد اشتهيت أن أكون عروسا . قالت : وما يمنعك من ذلك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ويحك أبعد أربع في الرحبة ( 3 ) ؟ قالت : طلق واحدة منهن وأدخل مكانها أخرى .قال : ويحك ، قد علمت هذا ، ولكن الطلاق قبيح وأنا أكرهه”.
[دعائم الإسلام، ج ٢، القاضي النعمان المغربي، ص ٢٥٧].
كل هذا سقناه لندلل على أن من استكثر من شيء من الدنيا فإنه لا يعاب به بل ولا ينفي زهده في الدنيا .
ثالثا: هذا الدعاء معدود في مناقب معاوية رضي الله عنه من أوجه
الوجه الأول: أنه انقلب دعاء له لا عليه فصار من مناقبه جزما، وذلك أن الرواية لم تذكر أن معاوية قد أخبره ابن عباس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له فرفض بحجة أنه يأكل، فلم يعلم معاوية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقال إنه خالف ويستحق الدعاء عليه فدخل جزما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً»
[«صحيح مسلم» (4/ 2007 ت عبد الباقي)].
وهذا ما ذكره النووي مقرا به فقال «وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب وجعله غيره من مناقب معاويةلانه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ»
[«شرح النووي على مسلم» (16/ 156)].
الوجه الثاني: هذا الحديث فيه بشارة كبيرة لأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال «”فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ، أَوْ مُؤْمِنَةٍ، دَعَوْتُ عَلَيْهِ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَطُهُورًا “»
[«مسند أحمد» (40/ 304 ط الرسالة)].
وهذا فيه إثبات الإيمان لذلك الصحابي وإن الله يجعل ذلك الدعاء زكاة ورحمة عليه.
وقد جاءت نفس الرواية عند الشيعة بسند صحيح، ففي بحار الأنوار بسند كل رجاله ثقات عند الشيعة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إنما أنا بشر أغضب وأرضى، وأيما مؤمن حرمته وأقصيته أو دعوت عليه فاجعله كفارة وطهورا، وأيما كافر قربته أو حبوته أو أعطيته أو دعوت له ولا يكون لها أهلا فاجعل ذلك عليه عذابا ووبالا ”
[الکتاب: بحار الأنوار – ط دار الاحیاء التراث المؤلف: العلامة المجلسي الجزء: 101 صفحة: 290 و النوادر ص170].
ولذلك فإن هذا الدعاء لم ير فيه معاوية رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة ما يعيب في الدين والتقوى، ولو حصل لنقل الينا .
قال الذهبي: “«لَعَلَّ أَنْ يُقَالْ هَذِهِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ لِقَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُمَّ مَنْ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً»
[«سير أعلام النبلاء – ط الرسالة» (14/ 130)].
الوجه الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخده كاتبا للوحي ولذلك قال الحافظ ابن عساكر «وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي حمزة عن ابن عباس أنه كاتب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد أخرجه مسلم في صحيحه»
[«تاريخ دمشق لابن عساكر» (59/ 106)].
ولا شك أن هذه منقبة عظيمة لمعاوية رضي الله عنه ولم النبي صلى الله عليه وسلم يستأمنه على كتابة الوحي ، ومن نفى تلك الفضيلة عن معاوية فيلزمه إبطال تلك الشبهة من أصلها، وإلا فقد ثبتت في صحيح مسلم وَمُعَاوِيَةُ، تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: «نَعَمْ».
[«صحيح مسلم» (4/ 1945 ت عبد الباقي)].
وفي مسند أحمد «اذهبْ فادْعُ لي معاوية”، وكان كاتِبَه»
[«مسند أحمد» (3/ 189 ت أحمد شاكر)]
وفي جزء أبي عبد الله العطار عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: «كَانَ مُعَاوِيَةُ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
[«جزء أبي عبد الله العطار» (ص59 بترقيم الشاملة آليا)].
وقد أيدت كتب الشيعة إن معاوية كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد روى الحر العاملي: “عن أبي حمزة الثمالي قال : سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ومعاوية يكتب بين يديه وأهوى بيده إلى خاصرته بالسيف : من أدرك هذا يوما أميرا فليبقر خاصرته بالسيف ( الحديث )”.
[إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج ١، الحر العاملي، ص ٢٨٨].
واتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم معاوية كاتبا للوحي مع وجود الكثير من الصحابة الكتبة كونه كام في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تعلم الكثير منهم الكتابة يدلك على أن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية لم يكن الا طعنة لهؤلاء الطاعنين فيه رضي الله عنه وسيأتي تفصيل الكلام في ذلك.
الوجه الرابع:إن عدم الشبع مطلوب شرعي، وقد رووا عن علي أنه وصف نفسه بعدم الشبع فقال: “وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ”
[اسم الکتاب : نهج البلاغة ت الحسون المؤلف : السيد الشريف الرضي الجزء : 1 صفحة : 678].
ورووا حوارات بين إبليس ويحيى: “قال يحيى ( عليه السلام ) : فهل ظفرت بي ساعة قط ؟ قال : لا ، ولكن فيك خصلة تعجبني . قال يحيى : فما هي ؟ قال : أنت رجل أكول ، فإذا أفطرت أكلت وبشمت فيمنعك ذلك من بعض صلاتك وقيامك بالليل . قال يحيى ( عليه السلام ) : فاني أعطي الله عهدا أني لا أشبع من الطعام حتى ألقاه”.
[الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٣٤٠].
[الأنوار النعمانية، ج ٣، السيد نعمة الله الجزائري، ص ٩٢].
[الكشكول، ج ١، المحقق البحراني، ص ٢٧١].
ورووا عن علي أنه قال: إياك وادمان الشبع ، فإنه يهيج الأسقام ، ويثير العلل ”
[مستدرك الوسائل، ج ١٦، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ص ٢٢١].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا لمعاوية بمطلوب شرعي يؤجر عليه المرء فيكون ذلك فضيلة لا رذيلة، على أننا نجزم أنه لو جاء هذا الدعاء من النبي على علي لقالوا إن المقصود به عدم شبع البطن من العلم ولن يشبع من العلم وقد رووا عن علي أنه قال: “وَ أَمَّا كِبَرُ بَطْنِي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) عَلَّمَنِي بَاباً مِنَ الْعِلْمِ فَفَتَحَ ذَلِكَ الْبَابُ أَلْفَ بَابٍ فَازْدَحَمَ فِي بَطْنِي فَنَفَخَتْ عَنْ ضُلُوعِي”.
[اسم الکتاب : علل الشرائع المؤلف : الشيخ الصدوق الجزء : 1 صفحة : 159].
وفي الرواية التي بعدها قال في الرواية عن علي انه: “بَطِينٌ مِنَ الْعِلْمِ”.
[اسم الکتاب : علل الشرائع المؤلف : الشيخ الصدوق الجزء : 1 صفحة : 159].
وأما قيل انه رضي الله عنه كان سمينا من كثرة الأكل فضلا عن كونه لا يثبت بسند صحيح ولم أره حتى بسند ضعيف الا ان البعض يذكره، فنقول إنه مما لا يثبت قطعا وهذا ينافي كونه كان نشيطا في الجهاد ولم يذكر عنه أنه كان يتخلف عن الصلوات في الجماعة، هذا فضلا عن أن من وصفه لم يصفه بأنه بطين كما وصف الشيعة عليا بذلك قال الذهبي: “«ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَغَيْرُهُ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ طَوِيْلاً، أَبْيَضَ، جَمِيْلاً، إِذَا ضَحِكَ انْقَلَبَتْ شَفَتُهُ العُلْيَا، وَكَانَ يَخْضِبُ»
[«سير أعلام النبلاء – ط الرسالة» (3/ 120)].
فهذا الوصف ينافي ما يذكره الشيخ علي جمعة
[الدقيقة ٩ وما بعدها].
وخلاصة الأمر أن هذه منقبة واضحة الا لمن اعمى الله قبله والحمد لله على سلامة قلوب أهل السنة لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
مواضيع شبيهة