صعلوك لا مال له
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ، وَهُوَ غَائِبٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ، فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ، فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»، فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ: «تِلْكِ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي، اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي»، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: «انْكِحِي أُسَامَةَ»، فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا، وَاغْتَبَطْتُ بِهِ
[«صحيح مسلم» (2/ 1114 ت عبد الباقي)].
«[صعلك] الصُعْلوكُ: الفقيرُ. وصَعاليكُ العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك، لانه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه. والتصعلك: الفقر. قال الشاعر (1) :غَنينا زماناً بالتَصَعْلُكِ والغِنى (2) * ويقال: تصعلكت الابل، إذا طرحت أو بارها»
[«الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1595)].
«أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ، لَا مَالَ لَهُ
[«صحيح مسلم» (2/ 1119 ت عبد الباقي)].
طعن الشيعة في معاوية رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم في معاوية (صعلوك لا مال له) فيذكرون أنه صعلوك من باب السب له رضي الله عنه.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: من المعلوم أن الالفاظ إنما تفهم من لغة العرب بحسب ما اصطلح عليه العرب لا من حيث ما يشيع عرفا بعد زمان الخطاب وهذا ما اعترف به علماء الشيعة أنفسهم، يقول محمد باقر الصدر: “لا شك في أن ظواهر اللغة والكرم تتطور، وتتغير على مر الزمن بفعل مؤثرات مختلفة لغوية، وفكرية، واجتماعية. فقد يكون ما هو المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفا للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث، وموضوع حجية الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له لأنها حجية عقلائية قائمة على أساس حيثية الكشف والظهور الحالي.ومن الواضح ان ظاهر حال المتكلم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلا في زمان صدور الكلام منه.
[اسم الکتاب : دروس في علم الأصول المؤلف : الصدر، السيد محمد باقر الجزء : 2 صفحة : 166].
وعليه فإننا إذا رجعنا إلى كلمة “صعلوك” لوجدنا أنها لا تطلق عند العرب في أصل إطلاقها الا على الفقير، حتى أن اللصوص إنما قيل لهم صعاليك لأجل الفقر، ومن كان فقيرا في شيء ما فإنه يصح وصفه بالصعلكة.قال الجوهري: “«[صعلك] الصُعْلوكُ: الفقيرُ. وصَعاليكُ العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك، لانه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه. والتصعلك: الفقر. قال الشاعر (1) : غَنينا زماناً بالتَصَعْلُكِ والغِنى (2) * ويقال: تصعلكت الابل، إذا طرحت أو بارها»
[«الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية» (4/ 1595)].
وفي اللسان: “قال ثعلب هذا وصَف صُعْلوكاً فقال لا مالَ له”.
[لسان العرب 9/249].
وفيه: “الصُّعْلُوك الفقير الذي لا مال له”.
[لسان العرب 10/455].
في القاموس المحيط: “والصُّعْلُوكُ كعُصْفُورٍ : الفقيرُ . وتَصَعْلَكَ : افْتَقَرَ”.
[القاموس المحيط 1/1221].
وعليه فهذه الكلمة في أصل وضعها لم تكن سبا ولا تنقيصا ودليلنا على ذلك أن لسان الشرع استعملها فيمن مدحهم وأثنى عليهم، فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بهذه الكلمة، ففي المسند «عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ عَدَنَ وَعَمَّانَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، أَكْوَابُهُ (3) مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيْهِ وُرُودًا صَعَالِيكُ الْمُهَاجِرِينَ “ قَالَ قَائِلٌ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ” الشَّعِثَةُ رُءُوسُهُمْ، الشَّحِبَةُ (1) وُجُوهُهُمْ، الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، لَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ (2) ، وَلَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ الَّذِينَ يُعْطُونَ كُلَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَلَا يَأْخُذُونَ الَّذِي لَهُمْ “»
[«مسند أحمد» (10/ 302 ط الرسالة)].
فهل يقول عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف المهاجرين بالصعاليق كان يذمهم ويسبهم؟ فهذا عرف الشرع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يستخدم هذه الكلمة كوصف للفقر لا غير ذلك.
ثانيا: قول بعضهم (معاوية النبي صلى الله عليه وآله قال عنه صعلوك: واما معاوية فصعلوك، لا مال له. ليس لانه لا مال له فهو صعلوك لا، لو كان كل من ليس له مال فهو صعلوك لكان ابو ذر صعلوك ولكان سلمان صعلوك لا، صعلوك وصفة ثانية لا مال له)
فهذا من الجهل العميق بلغة العرب فقد يفسر اللفظ بلفظ بعده أظهر منه ومنه عطف الشيء على مرادفه، يقول الدكتور فاضل السامرائي: “ومن عطف الشيء على مرادفه قولك: (هذا كذب وافتراء) والافتراء كذب، ومنه قول الشاعر:والفى قولها كذبا ومينا.والمين كذب.
[فاضل صالح السامرائي، معاني النحو، ٢٣٠/٣]
هذا مع العطف بالواو واشد وضوحا منه مع حذف الواو فيكون تفسيرا وتأكيد للمعنى كما في قولك (جاء القوم كلهم) فقد فهم المعنى من كلمة القوم التي تفيد الشمول ومع ذلك جيء بلفظ كلهم تأكيدا.فقال النبي صلى الله عليه وسلم(صعلوك لا مال له) كقول فاطمة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي تصف زوجها علي «يا رسول اللّه زوجتني من رجل فقير ليس له شيء»
[اسم الکتاب : المراجعات المؤلف : شرف الدين الموسوي، السيد عبد الحسين الجزء : 1 صفحة : 443].
وكذلك وصف أبو طالب والد علي: ” قال ابن أبي الحديد في فضل أمير المؤمنين عليه السّلام: ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكّة،قالوا:قلّ أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسمّيه الشيخ.
[سفینة البحار و مدینة الحکم و الآثار المؤلف : القمي، الشيخ عباس الجزء : 5 صفحة : 318].
وأما قوله يلزم من ذلك أن يكون أبو ذر وسلمان صعاليك فنقول نعم صعاليك لا مال لهم وكذلك علي رضي الله عنه ولا إشكال في ذلك قط وهذا ليس كلامي بل كلام أهل البيت عند الشيعة وقد صرحت كتبهم بذلك كثيرا ففي رواية ذكرها شريفهم المرتضى: “نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل والصعلوك الفقير
[الأمالي، ج ١، الشريف المرتضى، ص ٢٤].
واستشهد بها علماء الشيعة قال علي الحائري الطهراني: “وفي حديث : نعم كنز الصعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل”.
[تفسير مقتنيات الدرر، ج ١١، علي الحائري الطهراني ( المفسر )، ص ٢٨٠].
وقال مرتضى الحسيني النجومي وبالحديث الآخر : « نعم كنز الصّعلوك سورة آل عمران يقوم بها في آخر الليل » . والصعلوك ، الفقير .
[الرسائل الفقهية، مرتضى الحسيني النجومي، ص ١٨٢].
ومن المعلوم أن عليا كان فقيرا لا مال له حتى أن فاطمة اشتكت من المهر الخسيس الذي أصدقها علي، كما في رواية الكافي
[اسم الکتاب : الکافی- ط دار الحدیث المؤلف : الشيخ الكليني الجزء : 10 صفحة : 714].
ورووا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليهالسلام ، قَالَ : « زَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صلىاللهعليهوآلهوسلم عَلِيّاً [٦] فَاطِمَةَ عليهماالسلام عَلى دِرْعٍ حُطَمِيَّةٍ ، وَكَانَ فِرَاشُهَا إِهَابَ كَبْشٍ ، يَجْعَلَانِ الصُّوفَ إِذَا اضْطَجَعَا تَحْتَ جُنُوبِهِمَا»
[اسم الکتاب : الکافی- ط دار الحدیث المؤلف : الشيخ الكليني الجزء : 10 صفحة : 712].
فيكون علي بلا خلاف من صعاليك المهاجرين بمعنى فقرائهم، ولكننا لا نستجيز ذكر ذلك أمام من لا يفهم لغة العرب أو من علي على لسانه أنها كلمة لا تطلق الا للذم، ولذلك فمن قال إن معاوية صعلوك قلنا له كذبت، لأنك ذكرتها ذما والرواية قيدتها فقالت (صعلوك لا مال له) وقد ذكر ذلك في نعرض بيان الحال المتعلقة بالزواج، والمال مما يُرغب فيه للنكاح باتفاق الكل، فكان ذكر ذلك جائزا مع التقيد بمفهوم الرواية وألفاظها دون بترها.
ثالثا: معلوم أن معاوية قد كان سيدا على الدنيا في زمانه وفتوحاته التي ملأت الأرض تشهد على ذلك، والسيادة مع الفقر قد مدحها الشيعة غاية المدح فمما نقلوه عن أبي طالب: “وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، قالوا: قل أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسميه الشيخ.
[اسم الکتاب : الصحيح من سيرة الإمام علي (عليه السلام) المؤلف : العاملي، جعفر مرتضى الجزء : 22 صفحة : 289].
والشيعة يعترفون أن معاوية كان فقيرا يقول محمد بيومي مهران: “ودليلنا أن ولده معاوية بن أبي سفيان كان على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقيراً وربما معدماً، وقد روى أهل الفقه والحديث والمغازي وأصحاب الطبقات ما يدل على ذلك في قصة فاطمة بنت قيس
[اسم الکتاب : الإمامة وأهل البيت (ع) المؤلف : بيومي مهران، محمد الجزء : 1 صفحة : 371].
فإذا كان كذلك وكان سيدا فهذا عين المدح، ومع سيادته هذه فقد كان ازهد الناس في الدنيا، فقد كان يمشي في سوق دمشق بثياب مرقوعة «وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ فِي سُوقِ دِمَشْقَ وَهُوَ مُرْدِفٌ وَرَاءَهُ وَصِيفًا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْبِ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِ دِمَشْقَ»
[«البداية والنهاية» (11/ 438 ت التركي)].
وروى أحمد في الزهد: «965 – حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو شِبْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ وَاقِعٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعٌ “»
[«الزهد لأحمد بن حنبل» (ص142)].
ولذلك «قَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ لَقُلْتُمْ هَذَا الْمَهْدِيُّ»
[«البداية والنهاية ت شيري» (8/ 143)].
فهذا السيد الزاهد المجاهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
رابعا: لئن كان الوصف بالصعلكة ذم كله فلماذا يصف الشيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الوصف في كتبهم ؟
فقد جاء في مستدرك السفينة: “في مجلس خطبة خديجة لما قال خويلد : وهذا محمد فقير صعلوك ، فقام إليه حمزة فقال له : لا يقدر اليوم بأمس ، ولا تشاكل القمر بالشمس يا بادي الجهل ، ويا خسيف ( 4 ) العقل ، أما علمت أنك قد ضل رشدك . وغاب عقلك ، أتثلب ابن أخينا ؟ أما علمت أنه إذا أراد أموالنا وأرواحنا قدمنا الكل بين يديه ، ولكن سوف يبين لك غب ( 5 ) فعلك ، ثم نفض أثوابه ونهض ، ونهض أخواته وساروا إلى منازلهم
[مستدرك سفينة البحار، ج ٢، الشيخ علي النمازي الشاهرودي، ص ٤١٧].
[ بحار الأنوار، ج ١٦، العلامة المجلسي، ص ٦١].
[الأنوار الساطعة من الغراء الطاهرة ( خديجة بنت خويلد )، الشيخ غالب السيلاوي، ص ٨٥].
خامسا: إن هذا الحديث من أعظم مناقبه معاوية رضي الله عنه ودليل إيمانه وسلامة دينه إذ أن المرأة لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم في معاوية كزوجا لم يكن من طعن الا الفقر، ولو كان هناك غمز في دين معاوية لما سكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة الشيعة فقال هذا منافق نجس لا يجوز الزواج منه، أو لتكلم في دينه، فلما لم يذكر الا الفقر علمنا أن دين معاوية لا مطعن فيه لأحد كائنا من كان وهذا غاية التوثيق لمعاوية رضي الله عنه.
والحمد لله رب العالمين
مواضيع شبيهة