ترك إقامة الحد على الوليد بن عقبة
قال الشيعة إن عثمان ترك إقامة الحد على الوليد بن عقبة بعدما استوجب الحد بشربه الخمر!واستدلوا على ذلك بكلام منسوب لبعض المؤرخين والأدباء.يقول الأميني: “وروى من طريق المدائني في صفحة 180 عن الزهري أنه قال: خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال: أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل ؟ لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم، فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال: أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة.فسمعت فرفعت نعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقالت: تركت سنة رسول الله صاحب هذا النعل.
فتسامع الناس فجاءوا حتى ملأوا المسجد فمن قائل: أحسنت، ومن قائل: ما للنساء ولهذا ؟ حتى تحاصبوا و تضاربوا بالنعال، ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له: إتق الله لا تعطل الحد واعزل أخاك عنهم فعزله عنهم.وأخرج من طريق مطر الوراق قال: قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي الله عنه: إني صليت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال: أزيدكم ؟ إني أجد اليوم نشاطا، وأنا أشم منه رائحة الخمر.فضرب عثمان الرجل، فقال الناس: عطلت الحدود، وضربت الشهود.
وروى ابن عبد ربه قصة الصلاة في العقد الفريد 2: 273 وفيه: صلى بهم الصبح ثلاث ركعات وهو سكران.. الخ. وجاء في صحيح البخاري في مناقب عثمان في حديث. قد أكثر الناس فيه.قال ابن حجر في فتح الباري 7: 44 في شرح الجملة المذكورة: ووقع في رواية معمر: وكان أكثر الناس فيما فعل به، أي من تركه إقامة الحد عليه ” على مروان ”
[اسم الکتاب : الغدير المؤلف : العلامة الأميني الجزء : 8 صفحة : 123].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: جميع الروايات التي تقول إن عثمان لم يقم الحد على الوليد لا تصح ويأتيك الدليل، وما نقله الأميني فهو إما ساقط بإرسال الزهري كما في الرواية الأولى، وأما الرواية الثانية فمن طريق مطر الوراق وأكثر العلماء على تضعيفه، قال الشيخ الألباني في رواية فيها مطر «وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف مطر الوراق؛ قال الحافظ:“صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف”.قلت: ولذلك؛ لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرج له البخاري تعليقاً، ومسلم مقروناً»
[«سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» (11/ 266)].
هذا فضلا عن الانقطاع بين مطر الوراق والحادثة التي في زمان عثمانقال الذهبي «تُوُفِّيَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَمائَةٍ»
[«سير أعلام النبلاء – ط الرسالة» (5/ 453)].
وعليه فجميع الروايات في ذلك لم تصح .
ثانيا: القول بأن الوليد قد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم هذا وإن كان ذكر في صحيح مسلم إلا أنه ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من كلام صحابي حضر ذلك، إنما من كلام حضين بين المنذر والذي لم يحضر الواقعة، ولم يذكر لنا من نقل له ذلك، وإليك الرواية من صحيح مسلم . 38 – (1707) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الدَّانَاجِ، ح وحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ فَيْرُوزَ، مَوْلَى ابْنِ عَامِرٍ الدَّانَاجِ، حَدَّثَنَا حُضَيْنُ بْنُ الْمُنْذِرِ أَبُو سَاسَانَ، قَالَ: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: «جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ»، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، ” وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. زَادَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ: وَقَدْ سَمِعْتُ حَدِيثَ الدَّانَاجِ مِنْهُ فَلَمْ أَحْفَظْهُ
[«صحيح مسلم» (3/ 1331 ت عبد الباقي)].
يقول الشيخ محب الدين الخطيب: “«ولم يرد في الشهادة ذكر الصلاة من أصلها فضلا عن أن تكون اثنتين أو أربعا. وزيادة ذكر الصلاة هي الأخرى أمرها عجيب، فقد نقل خبرها عن الحضين بن المنذر (أحد أتباع علي) أنه كان مع علي عند عثمان ساعة أقيم الحد على الوليد، وتناقل الناس عنه هذا الخبر فسجله مسلم في صحيحه (كتاب الحدود ب8 ح38 – ج5 ص126) بلفظ ” شهدتُ عثمان بن عفان وأتي بالوليد قد صلى الصبح (ركعتين) ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ “. فالشاهدان لم يشهدا بأن الوليد صلى الصبح ركعتين وقال أزيدكم، بل شهد أحدهما بأنه شرب الخمر وشهد الآخر بأنه تقيأ. أما صلاة الصبح ركعتين وكلمة أزيدكم فهي من كلام حضين، ولم يكن حضين من الشهود، ولا كان في الكوفة في وقت الحادث المزعوم، ثم إنه لم يسند هذا العنصر من عناصر الاتهام إلى إنسان معروف. ومن العجيب أن نفس الخبر الذي في صحيح مسلم وارد في ثلاثة مواضع من مسند أحمد مرويا عن حضين، والذي سمعه من حضين في صحيح مسلم هو الذي سمعه منه في مسند أحمد بمواضعه الثلاثة، فالموضعان الأول والثاني (ج1 ص82 و140 الطبعة الأولى – ج2 رقم 642 و1184 الطبعة الثانية) ليس فيهما ذكر للصلاة عن لسان حضين فضلا عن غيره، فلعل أحد الرواة من بعده أدرك أن الكلام عن الصلاة ليس من كلام الشهود فاقتصر على ذكر الحد. وأما في الموضع الثالث من مسند أحمد (ج1 ص144 – 145 الطبعة الأولى – ج2 رقم 1229) فقد جاء على لسان حضين ” أن الوليد صلى بالناس الصبح أربعا ” وهو يعارض ما جاء على لسان حضين نفسه في صحيح مسلم، ففي إحدى الروايتين تحريف، الله أعلم بسببه. وفي الحالتين لا يخرج ذكر الصلاة عن أنه من كلام حضين وحضين ليس بشاهد، ولم يرو عن شاهد، فلا عبرة بهذا الجزء من كلامه»
[«العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية» (ص94)].
وعليه فلا عبرة بكلام حضين كونه لم يكن وقتها في الكوفة وإنما كان في المدينة عند عثمان.
ثالثا: ثبت في رواية صحيح مسلم آنفة الذكر أن عثمان قد أقام الحد على الوليد بن عقبة، هذا مع أن الشهود على الوليد لم يكونوا الا مجرد موتورين.«الموتور: من قتل له قتيل، فلم يدرك بدمه»
[«القاموس الفقهي» (ص370)].
وقد كان يسع عثمان ألا يقيم الحد على الوليد إذ أنه لم يعترف بشيء ولم يشهد الشهود بشيء فيه تصريح إنما شهد أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأ.ومجرد قيء الخمر لا يوجب الحد على الراجح من أقوال أهل العلم، فقد ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ (1) . إِلَى أَنَّهُ لاَ حَدَّ عَلَى مَنْ تَقَيَّأَ الْخَمْرَ؛ لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا تُسْكِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
[مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، ١٠٢/٢٥]
بل وقد رجح الحلي عدم الحد لمجرد قيء الخمر فقال والأقرب المنع -أي عدم إقامة الحد- ، لاحتمال استناد السكر إلى غير الشرب الاختياري.
[اسم الکتاب : مختلف الشيعة المؤلف : العلامة الحلي الجزء : 9 صفحة : 196].
ورغم كل هذا فقد اخذ عثمان بالشدة مع أخيه لأمه وقال« نُقِيمُ الْحُدُودَ وَيَبُوءُ شَاهِدُ الزُّورِ بِالنَّارِ»
[«تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري» (4/ 276)].
[«تاريخ دمشق لابن عساكر» (63/ 244)].
يقول للشيخ محب الدين الخطيب: “«وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم لئلا يقول السفهاء إن له هوى في ذوي قرابته»
[«العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية» (ص94)].
رابعا: ما نقله الأميني عن الحافظ ابن حجر من قوله «وَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيمَا فَعَلَ بِهِ أَيْ مِنْ تَرْكِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ»
[«فتح الباري لابن حجر» (7/ 56)].
فنقول إن عثمان كان أسرع الناس في تنفيذ حدود الله تعالى، وليس من السرعة إقامة الحد دون النظر في صحة البينة على حسب ما أمر الله تعالى، ولذلك فإن تعجل بعض الناس إقامة الحد كان خطئا منهم، ومع ذلك لم تأخذ عثمان العزة بالإثم فيترك إقامة الحد رغم افتئات البعض عليه، ويدل لذلك ما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، قَالاَ لَهُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، وَهِيَ نَصِيحَةٌ، فَقَالَ: أَيُّهَا المَرْءُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلاَةَ جَلَسْتُ إِلَى المِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ، وَقَالَ لِي، فَقَالاَ: قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا، إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ، فَقَالاَ لِي: قَدِ ابْتَلاَكَ اللَّهُ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ -[50]-: مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا؟ قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: ” إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنْتَ بِهِ، وَهَاجَرْتَ الهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدَّ، فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ أَخِي، آدْرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: قُلْتُ: لاَ، وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى العَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا، قَالَ: فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، وَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَاجَرْتُ الهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، كَمَا قُلْتَ: وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَبَايَعْتُهُ، وَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلاَ غَشَشْتُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالحَقِّ، قَالَ: فَجَلَدَ الوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ، وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ ”
[البخاري، صحيح البخاري، ٤٩/٥]
فهذا رجل تجرأ على عثمان رضي الله عنه جرأة في غير محلها إذ أن عثمان كان في ذلك الوقت يتحرى حال الشهود على الوليد، قال الحافظ: “وَإِنَّمَا أَخَّرَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِيَكْشِفَ عَنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَلَمَّا وَضَحَ لَهُ الْأَمْرُ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ”.
[ابن حجر العسقلاني، فتح الباري لابن حجر، ٥٦/٧]
فلم يكن لهذا الرجل أن ينكر ولا أن يشيع الحديث بأن عثمان تأخر في إقامة الحد ورغم ذلك كله قضى له عثمان حاجته وسمع نصيحته وقام بما عليه من الحسبة لمّا بين للرجل خطأه فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ثم أقام الحد على الوليد بن عقبة، رغم ما فيه من سعة كما بينا .
خامسا: من حق الوليد بن عقبة علينا أن ننقل تلك الكلمات التي علاها النور، وقد سطرها يراع الفارس البارع محب السلف الصالح الشيخ العلامة محب الدين الخطيب وهو يبين حال ذلك الفارس المجاهد الوليد بن عقبة في تلك القضية، فيقول: “«ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرنا، فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد الوليد بن عقبة – منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان – أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته، الناشرين لرسالته. وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره – إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة – ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أو لا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء، متى شاء، من ليل أو نهار، ولم يكن بالوليد حاجة لأن يستتر عن الناس:فالستر دون الفاحشات ولا … يلقاك دون الخير من ستر وكان ينبغي أن يكون الناس كلهم محبين لأميرهم الطيب لأنه أقام لغربائهم دور الضيافة، وأدخل على الناس خيرا حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم. وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقة بحب هذا الأمير المثالي طول مدة حكمه. إلا أن فريقا من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له. ومن هؤلاء رجال يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي، وآخر يسمى أبا مورع، وثالث اسمه جندب أبو زهير، قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان داره وقتلوه، وكان نازلا بجواره رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل السابقة في الإسلام وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش خزاعة يوم فتح مكة فجاء هو وابنه من المدينة على الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد بن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو الشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين، فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم. وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحا دائما. وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال كان نصرانيا في أخواله من تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد، فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانيا لا بد أن يكون ممن يشرب الخمر ولعل الوليد أن يكرمه بذلك فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجئ بهم نحى شيئا أدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلا تفاريق عنب، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم. وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر. ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب. وذهب بعض الذين كانوا عمالا في الحكومة ونحاهم الوليد عن أعمالهم لسوء سيرتهم فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة. وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجا. فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه زوجتيه – وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر – فقالتا: إن آخر من بقى في الدار رجلان، وذكرتا صفتهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقا الخاتم إلا لمكيدة بيّتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدا في الكوفة، وكانا قد سافرا توا إلى المدينة، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون في خلافة عمر) فقالا كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقيء الخمر إلا شاربها. فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: ” نقيم الحدود. ويبوء شاهد الزور بالنار “… «وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علما بأمر حمران، وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة. فجاء الكوفة يعيث فيها فسادا، ودخل على العابد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام. وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم به عليهم بما يشاء، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر وعثمان. وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم لئلا يقول السفهاء إن له هوى في ذوي قرابته… والآن أقولها لوجه الله صريحة مدوية: إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدّوه قديسا، لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام، والعجب لأمة تسيء إلى أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق»
[«العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية» (ص94)»].
[«العواصم من القواصم ط الأوقاف السعودية» (ص94)].
والحمد لله رب العالمين
مواضيع شبيهة