نفي أبي ذر إلى الربذة
قال الشيعة إن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد نفى أبا ذر إلى الربذة لما أنكر عليهم كنز الأموال، وذكروا في ذلك روايات كثيرة، يقول الفضل بن شاذان: “وهذا عثمان قد نفى أبا ذر إلى الربذة كما يفعل بأهل الخنا والريب”
[الإيضاح، الفضل بن شاذان الأزدي، ص ٦١٩].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: الصحيح الثابت عن أبي ذر وعن عثمان في ذلك أن أبا ذر قد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخرج من المدينة إذا بلغ البناء سلعا، ولأجل ذلك فقد طلب من عثمان أن يأذن له في الخروج إلى الربذة((( هامش: الربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من قيد تريد مكة مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ 2/749 (ط. فَلَوْجَلَ) )))
فأذن له عثمان وأراد عثمان إكرامه بالمال وغيره لكن أبا ذر رفض ذلك زهدا في الدنيا، وكان لأبي ذر مذهب في المال خالف به جمهور الصحابة وكان يريد إلزام غيره بمذهبه وهذا مما لا يصلح مع جميع الناس بداهة، ولذلك أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاعتزال، ويدل على ما ذكرناه روايات عدة منها
في المستدرك بسند صحيح: ” عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ ذَرٍّ: وَاللَّهِ مَا سَيَّرَ عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَمَّا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سِلَعًا وَجَاوَزَ خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الشَّامِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»
[الحاكم، أبو عبد الله، المستدرك على الصحيحين للحاكم، ٣٨٧/٣].
وروى ابن الأعرابي: “عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ إِذْ أَتَاهُ شَيْخٌ فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ قَالُوا أَبُو ذَرٍّ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأَخِي، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أَخِي، لَقَدْ أَغْلَظْتَ عَلَيْنَا فِي الْعَزِيمَةِ، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ عَزَمْتَ عَلَيَّ أُخْبِرُهُ الْخُبُورَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَمَّا جَاءَ جَعَلَ يُصَعِّدُ بَصَرَهُ وَيُصَوِّبُهُ ثُمَّ قَالَ لِي: «وَيْحَكَ بَعْدِي» فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنِّي لَبَاقٍ بَعْدَكَ قَالَ: «نَعَمْ فَإِذَا رَأَيْتَ الْبِنَاءَ عَلَا سَلْعٍ فَالْحَقْ بِالْمَغْرِبِ أَرْضَ قُضَاعَةَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي يَوْمٌ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» يَعْنِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا قَالَ عُثْمَانُ: أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْعَلَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ وَخِفْتُ عَلَيْكَ جُهَّالَ النَّاسِ
[«معجم ابن الأعرابي» (1/ 75)].
فهذا أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر أن يخرج من المدينة إذا بلغ البناء سلعا، وفيه إكرام عثمان لأبي ذلك وتلطفه به غاية ما يكون من الإكرام والتلطف.هذا مع ما كان عليه أبو ذر من مذهب لا يصلح معه أن يخالط الناس، يقول ابن عبد البر: «فَأَمَّا أَبُو ذَرٍ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي بَعْضِهَا شِدَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ فَهُوَ كَنْزٌ وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَكَانَ يَقُولُ الْأَكْثَرُونَ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْمِئِينَ وَقْدَ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ تَرَكْتُ ذِكْرَهَا لِذَلِكَ وَلِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِ أَبِي ذَرٍ لَهَا»
[«الاستذكار» (3/ 173)].
وتأويل أبي ذر للآية واضح انه لا يصح لا عند السنة ولا عند الشيعة.يقول الحافظ: «وَيَتَلَخَّصُ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَلْيَكُنْ مَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مَا وَجَبَ مَنْهُ فَلَا يُسَمَّى كَنْزًا»
[«فتح الباري لابن حجر» (3/ 272)].
وأما عند الشيعة فقد قال ناصر مكارم الشيرازي: “وما ورد في الكثير من الروايات عن الشيعة وأهل السنّة، واتّفقت عليه آراء الكثير من المفسّرين هو: أنَّ المال الذي تؤدّى زكاته لايُعتبر كنزاً (أيُّ مال ادّيت زكاته فليس بكنز)
[نفحات القرآن المؤلف : مكارم الشيرازي، الشيخ ناصر الجزء : 6 صفحة : 277].
وعليه فإن مذهب أبي ذر لا يقول به السنة ولا الشيعة على السواء فكان إلزام الناس به مما لا يصلح معه مخالطة الناس، يقول القاضي ابن العربي: “ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدًا فاضلًا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا89، فسبحان مرتب المنازل.
[ابن العربي، العواصم من القواصم ط دار الجيل، صفحة ٨٦].
ولذلك فقد جاء في صحيح البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: «مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا. فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ.»
[«صحيح البخاري» (2/ 107 ط السلطانية)].
فهذه الرواية مع سوابقها تبين أن عثمان وأبا ذر قد دار بينهما من لطيف الكلام وحسن المشورة ما جعل عثمان يقترح حلولا لأبي ذر لما شكا له ابو ذر مضايقات البعض له بسبب مذهبه فكان اقتراح عثمان وتخييره لأبي ذر أن يتنحى فلما استقر رأي أبي ذر على أن يتنحى ويعتزل في الربذة استأذن عثمان فأذن له.وقد كان أبو ذر يرى أن لعثمان السمع والطاعة كخليفة شرعي على عكس ما يعتقد الروافض ولذلك استأذن من عثمان في الخروج من المدينة فأذن له وقال كما روى ابن أبي شيبة: “37698 – ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِعُثْمَانَ: ” لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَتَعَلَّقَ بِعُرْوَةِ قَتَبٍ لَتَعَلَّقْتُ بِهَا أَبَدًا حَتَّى أَمُوتَ
[أبو بكر بن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة، ٥٢٣/٧].
وقد جاء استئذان أبي ذر من عثمان ث حيا أيضا في رواية ابن حبان في صحيحه.5964 – أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ، يَقُولُ: -[302]- قَدِمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْتَحِ الْبَابَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ، أَتَحْسِبُنِي مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ؟ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ؟ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْعُدَ لَمَا قُمْتُ، وَلَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ قَائِمًا لَقُمْتُ مَا أَمْكَنَتْنِي رِجْلَايَ، وَلَوْ رَبَطْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ لَمْ أُطْلِقْ نَفْسِي حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُنِي، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّبَذَةَ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهَا، فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمُّهُمْ، فَقَالُوا: أَبُو ذَرٍّ فَنَكَصَ الْعَبْدُ، فَقِيلَ لَهُ: تَقَدَّمْ، فَقَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ: «أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ مُجَدَّعِ الْأَطْرَافِ، وَإِذَا صَنَعْتُ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، ثُمَّ انْظُرْ جِيرَانَكَ فَأَنِلْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ، وَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَتَيْتَ الْإِمَامَ وَقَدْ صَلَّى كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ نَافِلَةٌ»
[ابن حبان، صحيح ابن حبان – مخرجا، ٣٠١/١٣].
فهذه الروايات الصحيحة تبطل ما زعمه الشيعة وأشكالهم على عثمان وأنه قد نفى أبو ذر من المدينة إلى الربذة، بل وتثبت الروايات أنه لم يكن بين عثمان وأبي الا كل مؤاخاة وتواد وتراحم وتناصح باللطف واللين لا كما صوَّر الرافضة.
ثانيا: جميع الروايات التي تذكر أن عثمان هو الذي نفى أبو ذر ضعيفة لا تصح، يقول الدكتور الغبان: وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة، فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة لمخالفته الروايات الصحيحة والحسنة التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة وأن عثمان أذن له” .
[فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، الدكتور محمد بن عبد الله الغبان ص ١١٠].
وإليك أشهر تلك الروايات.
الرواية الأولى: في الطبقات لابن سعد «قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ وَأَصَابَهُ بِهَا قَدْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنِ اغْسِلانِي وَكَفِّنَانِي وَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ.فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ. ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارًا فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا بِالْجَنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتِ الإبل أن تَطَأُهَا. فَقَامَ إِلَيْهِ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ. [فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ. تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ] … ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ. ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود حديثه وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم – في مسيره إلى تبوك»
[«الطبقات الكبرى ط العلمية» (4/ 177)].
وهذه الرواية ضعيفة لا تصلح للاحتجاج إذ أنها من طريق «بريدة بن سفيان الأسلمي المدني.قال البخاري: فيه نظر. وقال أبو داود: لم يكن بذاك كان يتكلم في عثمان»
[«تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال» (2/ 14)].
وقال الحافظ: “«بريدة ابن سفيان الأسلمي المدني ليس بالقوي وفيه رفض من السادسة س»
[«تقريب التهذيب» (ص121)].
وتعقبه أصحاب التحرير فقالوا: “بل: ضعيفٌ، ضعَّفه البخاري، والنسائي، والجوزجاني، وأبو حاتمٍ الرازي. وقال الدارقطني: متروكٌ، وقال العُقَيلي: سُئِلَ أحمدُ عن حديثه، فقال: بَليَّة»
[«تحرير تقريب التهذيب» (1/ 168)].
ولذلك فقد قال الحافظ ابن حجر عنه أيضا «تابعي مشهور مضعّف عندهم»
[«الإصابة في تمييز الصحابة» (1/ 479)].
وذكر حديثًا ثم قال: “وسنده ضعيف من أجل بريدة”. “الإصابة” (4/ 264)
وعليه فإن بريدة ضعيف، ولو كان ثقة فإنه رافضي وروايته تؤيد بدعته وتشدها ويكفي وهذا كافي لرد روايته، فكيف وهو في الأصل ضعيف .يقول الحافظ «وينبغي ان يقيد قولنا بقبول رواية المبتدع إذا كان صدوقا ولم يكن داعية بشرط ان لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشيدها فانا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى»
[«لسان الميزان» (1/ 11)].
وبه تسقط الرواية .
الرواية الثانية: قال ابن شبه حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرُو، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ خِمَاشٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ بِأَبِي ذَرٍّ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَرَاهُ أَوْ أَلْقَاهُ مِنْهُ، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ: ” إِنْ كَانَ لَكَ فِي الشَّامِ حَاجَةٌ فَأَخْرِجْ أَبَا ذَرٍّ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ نَفَلَ النَّاسَ عِنْدِي، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُهُ بِالْقَدُومِ، فَلَمَّا قَدِمَ تَصَايَحَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، فَخَرَجْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فِيمَنْ يَنْظُرُ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَمَا سَبَّهُ وَلَا أَنَّبَهُ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أُغِيرَ عَلَى لِقَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟» قَالَ: «كُنْتُ عَلَى الْبِئْرِ أَسْتَقِي» ، ثُمَّ رَفَعَ أَبُو ذَرٍّ بِصَوْتِهِ الْأَشَدِّ فَقَالَ: ” {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ “، فَأَمَرَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الرَّبَذَةِ، فَخَرَجَ
[«تاريخ المدينة لابن شبة» (3/ 1034)].
والرواية ضعيفة بأبي عمرو بن حماس فقد جهَّله بعض أهل العلم .
[«المغني في الضعفاء» (2/ 801)].
[«ذيل ديوان الضعفاء» (ص79)].
وبعضهم كالحافظ ابن حجر قال ( «8270- أبو عمرو ابن حماس بكسر المهملة والتخفيف الليثي مقبول من السادسة مات سنة تسع وثلاثين د»
[«تقريب التهذيب» (ص660)].
وهذا الاصطلاح عنده يعني عند المتابعة، فإذا انفرد ضعف،فهذه المرتبة حديثها ضعيف عند جمهور اهل العلم، فحكم حديث الراوي المقبول هو الضعف لأنه يمثل حكم حديث الراوي المجهول والجمهور على رده وتضعيفه. [كتاب “مصطلح “مقبول” عند ابن حجر وتطبيقاته على الرواة من الطبقتين الثانية والثالثة في كتب السنن الأربعة” ص٢٧٧ لمحمد راغب راشد الجيطان رسالة ماجستير ٢٠١٠. ].
والحال هنا كذلك فلم يتابع، فالإسناد ضعيف.
الرواية الثالثة: قال ابن شبة حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ: ايذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَكَلَّمُ، قَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ، ثُمَّ أَعَادَهَا الثَّالِثَةَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِيذَنْ لِي فَوَاللَّهِ لَا أَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَ: تَكَلَّمْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَيْفَ بِكَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا أُخْرِجْتَ؟» فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ: فَأَيْنَ تَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَاهُنَا» ، وَأَشَارَ نَحْوَ الشَّامِ، وَإِنْ أُمِّرْ عَلَيْكَ عَبْدٌ أَسْوَدُ مُجَدَّعٌ فَاسْمَعْ لَهُ وَأَطِعْ ”
[«تاريخ المدينة لابن شبة» (3/ 1039)].
والرواية فيها هشام بن سعد المدني، أبو عباد، أو أبو سعيد، تكلم فيه الأئمة.قال ابن معين: “فيه ضعف، وداود بن قيس أحب إلي منه”، وقال مرة: “هو صالح ليس بمتروك الحديث”.قال أحمد: “لم يكن هشام بن سعد بالحافظ”، وقال مرة: “ليس بمحكم الحديث”، ولم يرضَه، وقال علي بن المديني: “هو صالح ولم يكن بالقوي”، وقال أبو حاتم: “يكتب حديثه ولا يحتج به، هو ومحمد بن إسحاق عندي واحد”.وقال أبو زرعة: “شيخ محله الصدق، وكذلك محمد بن إسحاق هو هكذا عندي، وهشام أحب إلي من محمد بن إسحاق”.وقال العجلي: “جائز الحديث، وهو حسن الحديث”، وقال النسائي: “ضعيف”، وقال ابن عدي: “مع ضعفه يكتب حديثه”.وهذا الكلام من هؤلاء يقتضي أن الرجل فيه ضعف، ولكن مع ذلك يكتب حديثه، ومثله إلى الصدق أقرب منه إلى الضعف إذا لم يخالف الثقات، وقول ابن حبان الآتي يصرح بذلك حيث قال: “كان ممن يقلب الأسانيد وهو لا يفهم، ويسند الموقوفات من حيث لا يعلم، فلما كثر مخالفته الأثبات فيما يروي عن الثقات بطل الاحتجاج به، وإن اعتبر بما واقق الثقات من حديثه فلا ضير”، ولذلك قال الحافظ ابن حجر: “صدوق له أوهام، ورمي بالتشيع، من كبار السابعة، مات سنة ستين، أو قبلها”، وقال الذهبي: “حسن الحديث”.
[انظر سؤالات ابن أبي شيبة (ص102) ، ومعرفة الثقات للعجلي (2/328) ، والضعفاء (4/341-342) ، والجرح والتعديل (9/61) ، والمجروحين (3/89) ، والكامل لابن عدي (7/108-109) ، وتذكرة الحفاظ (1/202) ، والكاشف (2/336) ، والتهذيب (11/37) ، والتقريب (572/ت7294)]
وأيضا فإن الرواية ساقطة بإرسال زيد بن أسلم
قال في جامع التحصيل 211 – زيد بن أسلم قال علي بن المديني سئل سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم فقال ما سمع من بن عمر إلا حديثين وقال يحيى بن معين لم يسمع من أبي هريرة وقال علي بن الحسين بن الجنيد زيد بن أسلم عن جابر مرسل وكذلك عن رافع بن خديج وعن أبي هريرة وعائشة أدخل بينه وبين عائشة القعقاع بن حكيم وبينه وبين أبي هريرة عطاء بن يسار قلت روايته عن عائشة في سنن أبي داود وعن أبي هريرة في جامع الترمذي ولكنه قال عقبة لا نعرف له سماعا من أبي هريرة وقال أبو زرعة زيد بن أسلم عن سعد يعني بن أبي وقاص مرسل وعن أبي أمامة ليس بشيء وهو مرسل وعن زياد أو عبد الله بن زياد عن علي مرسل وقال أبو حاتم زيد بن أسلم عن أبي سعيد مرسل يدخل بينهما عطاء بن يسار
[صلاح الدين العلائي، جامع التحصيل، صفحة ١٧٨].
فإذا كان زيد بن أسلم لم يسمع من علي ولا من أبي هريرة فكيف بأبي ذر وعثمان الذين تقدمت وفاتهما؟!!وبعد تسقط الرواية
الرواية الرابعة: عند ابن سعد في الطبقات قال «أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا العوّام بن حَوْشَب قال: حدّثنى رجل من أصحاب الآجُرّ عن شيخين من بنى ثَعْلَبَة رجل وامرأته قالا: نَزَلْنا الرّبذة فمرّ بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله، -صلى الله عليه وسلم-. فاستأذنّاه أن نغسل رأسه فأذن لنا واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق، حَسِبْتُه قال من أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً؟ فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟ فقال: يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا علىّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو أنّ عثمان صلبنى على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لى، ولو سيّرنى ما بين الأفق إلى الأفق، أو قال ما بين المشرق والمغرب، لسمعتُ وأطَعْتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لى، ولو ردّنى إلى منزلى لسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لى»
[«الطبقات الكبير» (4/ 213 ط الخانجي)].
والرواية ضعيفة فإن شيخ العوام مبهم ومثله شيخاه اللذان يرويان القصة.
الرواية الخامسة: قال ابن سعد «قال: أخبرنا الفضل بن دكين قال: حدّثنا جعفر بن بُرْقان عن ثابت بن الحجّاج عن عبد الله بن سيدان السّلَمىّ قال: تَناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثمّ انصرف أبو ذرّ متبسّمًا فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرنى أن آتىَ صَنْعاءَ أو عَدَنَ ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ، وأمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة»
[«الطبقات الكبير» (4/ 213 ط الخانجي)].
والحديث ضعيف بعبدالله بن سيدان
قال الحافظ في “الفتح” وذكر حديث عبد الله. ورواته ثقات«إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سِيدَانَ وَهُوَ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ فَإِنَّهُ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ قَالَ بن عَدِيٍّ شِبْهُ الْمَجْهُولِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ»
[«فتح الباري لابن حجر» (2/ 387)].
«قال النووي في ” الخلاصة”: اتفقوا على ضَعْف ابن سيدان- بكسر السن المهملة»
[«شرح سنن أبي داود للعيني» (4/ 400)].
وكذلك قال الكمال بن الهمام «فتح القدير للكمال ابن الهمام وتكملته ط الحلبي» (2/ 56)
وقال اللالكائي : مجهول، لا حجة فيه»
[«ميزان الاعتدال» (2/ 437)].
وبعد تسقط الرواية
وهناك روايات أخرى يذكرها الشيعة بلا أسانيد فلا نحتاج للكلام عليها .وبعد تسقط الشبهة من أصلها.
ثالثا: إلزاما للشيعة نقول إذا كان أبو ذر لم يكن هو الذي طلب الخروج إلى الربذة ورضي بجوار عثمان وجماعته من المرتدين فقد رضي أن يجلس في مجالس الظالمين وان يخالط أهل الفسق والردة، وقد قال الله تعالى { وَإِذَا رَأَیۡتَ ٱلَّذِینَ یَخُوضُونَ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ یَخُوضُوا۟ فِی حَدِیثٍ غَیۡرِهِۦۚ وَإِمَّا یُنسِیَنَّكَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَلَا تَقۡعُدۡ بَعۡدَ ٱلذِّكۡرَىٰ مَعَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِینَ }
[سُورَةُ الأَنۡعَامِ: ٦٨].
فإما أن يقول بأن أبا ذر هو الذي طلب من عثمان الخروج أو يقولوا بأنه رضي أن يخالط كتاب الله ويرضى بجوار الظالمين -وحاشاهم-.ثم لماذا ينفي عثمان أبو ذر ولا ينفي عليا ؟ إذا كانت العلة هو أن أبا ذر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيلزم أن عليا لم يكن كذلك وكفى به طعنا في علي، وإن كان علي يفعل ذلك ومعه الحسن والحسين وعمار وغيرهم من الصالحين فلماذا لم ينفهم عثمان إذا؟
فليتأمل المنصف ذلك ليعلم أنها لم تكن الا فرية سبئة مجوسية .
مواضيع شبيهة