قول عائشة رضي الله عنها: بوجود أخطاء في رسم القرآن.
جاء في موسوعة الأسئلة العقائدية: “علماء المذاهب الأربعة نقلوا في كتبهم عدّة روايات تدلّ على التحريف، منها: وقد سئلت عائشة عن اللحن الوارد في قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63]، وقوله عزّ من قائل: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النساء:162]، وقوله جلّ وعزّ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ ۚ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [المائدة:69]. فقالت: هذا من عمل الكتّاب، أخطأوا في الكتاب. وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين”.
[ موسوعة الأسـئلة العقائدية- مركز الأبحاث العقائدية- (3/ 96)].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولاً:نقول: الرواية ضعيفة ولا تصح إسنادا ولا متنا.
فقد رُوي هذا الأثر عن هشام بن عروة مِن طريقين:
1- أبو معاوية الضرير (أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في تفسيره، والفراء في تفسيره، والطبري في تفسيره، وابن أبي داود في المصاحف)
2- علي بن مسهر (أخرجه ابن شبة في أخبار المدينة)
والإسناد ساقط لعلتين.
الأولى أنه من طريق متكلم فيهما.اما أبو معاوية الضرير:قَال ابن نمير: كان أبو معاوية لا يضبط شيئا من حديثه، ضبطه لحديث الأعمش كان يضطرب في غيره اضطرابا شديدا. (تاريخ الخطيب: 5 / 245) .وَقَال ابن حجر في “التهذيب “: قال النَّسَائي: ثقة في الأعمش وَقَال أبو داود: قلت لأحمد كيف حديث أبي معاوية عن هشام بن عروة؟ قال: فيها أحاديث مضطربة يرفع منها أحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم (9 / 139)وَقَال ابن حجر في “التقريب”: «ثقة أحفظ الناس لحديث الأعمش وقد يهم في حديث غيره»
[«تقريب التهذيب» (ص475)]
وقَالَ أَبُو دَاوُدَ: “أَبُو معاويةَ إِذَا جَاز حَدِيثَ الأَعْمَش كثُر خَطؤه. يخطئ عَلَى هِشَام بْن عروة»
[«سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني في الجرح والتعديل» (ص147)]
إذا العلة في هذا الإسناد هي رواية أبي معاوية الضرير العراقي عن هشام، فأهل العلم أثبتوا أن رواية أبي معاوية عن غير الأعمش مضطربة، وفيها أوهام.وأما علي بن مسهر فقد قال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه يقول: أما علي بن مسهر، فلا أدري كيف أقول، ثم قال: إن علي بن مسهر كان قد ذهب بصره، وكان يحدثهم من حفظه. وأنكر عليه حديثه عن هشام عن أبيه عن عائشة كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سمع المؤذن قال: “وأنا”، وقال: إنما هو عن هشام عن أبيه مرسل.
وذكر الأثرم أيضًا عن أحمد أنه أنكر حديثًا، فقيل له: رواه علي بن مسهر! فقال: إن علي بن مسهر كانت كتبه قد ذهبت، فكتب بعد، فإن كان روى هذا غيره وإلا فليس بشيء يعتمد.
[“الضعفاء” للعقيلي 3/ 251، “شرح علل الترمذي” 2/ 583»]
[«الجامع لعلوم الإمام أحمد – الرجال» (18/ 292)]
العلة الثانية: رواية العراقيين عن هشام بن عروة تكلم فيها أهل العلم، قَال يعقوب بن شَيْبَة عن هشام: ثبت، ثقة، لم ينكر عليه شيء إلا بعدما صار إِلَى العراق فإنه انبسط فِي الرواية عَن أبيه، فأنكر ذلك عليه أهل بلده، والذي يرى أن هشاما يسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عَن أبيه إلا بما سمعه منه فكان تسهله أنه أرسل عَن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عَن أبيه، وَقَال عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بن خراش: كان مالك لا يرضاه، وكان هشام صدوقا تدخل أخباره فِي الصحيح. بلغني أن مالكا نقم عليه حديثه لأهل العراق»
[«تهذيب الكمال في أسماء الرجال» (30/ 239)]
فتحصل من ذلك أن رواية العراقيين عن هشام بن عروة فيها كلام، وهذا الحديث مروي من طرق العراقيين عن هشام بن عروة، فأبو معاوية كوفي، ورواية الكوفيين عن هشام فيها اضطراب.وأما من ناحية المتن فالعلة فيه ظاهرة وهو تجارة متنه نكارة شديدة، ومن شرط الحديث الصحيح عدم الشذوذ وعدم العلة لا في متنه ولا في إسناده، والعلة في المتن ظاهرة، ولتوضيح ذلك أيضا نقول : هل يجوز لباحث أن يأتي إلى بعض أبيات امرئ القيس التي تناقلها العلماء بالتسليم ، فيرى فيها خطأ نحويا أو لغويا في نظره ، فيحكم على امرئ القيس باللحن والخطأ ؟!! ألا يكون في ذلك مصادرة لقواعد أصول النحو التي بني عليها ، وهدم لأسس هذا العلم نفسه ؟!!فكيف إذا حكم أحد الجاهلين بخطأ القرآن الكريم لغويا أو نحويا وقد تناقله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان في زمن الاحتجاج والكلام العربي الفصيح ، بل وتناقله العلماء والنحاة وأهل الفصاحة والبيان من غير نكير بينهم ، اللهم إلا في بعض الوجوه والقراءات التي لم تنقل لبعض النحاة على وجه التواتر .ألا يكون هذا الجاهل أولى بالنكير والتخطئة ممن يحكم بخطأ العرب الأقحاح الذين تستنبط قواعد اللغة من كلامهم وبيانهم ؟!!وبه تسقط تلك الرواية المنسوبة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.ولو سلمنا -جدلا- بأ هذه الروايات صحيحة، فإنها مخالفة للتواتر القاطع، ومعارض القاطع ساقط مردود، فلا يلتفت إليها، ولا يعمل بها.
ثانيًا: أنه قد نص في كتاب (إتحاف فضلاء البشر) على أن لفظ هذان قد رسم في المصحف من غير ألف ولا ياء؛ ليحتمل وجوه القراءات الأربع فيها، كما شرحنا ذلك سابقا في فوائد رسم المصحف، وإذن فلا يعقل أن يقال أخطأ الكاتب فإن الكاتب لم يكتب ألفا ولا ياء، ولو كان هناك خطأ تعتقده عائشة ما كانت تنسبه للكاتب، بل كانت تنسبه لمن يقرأ بتشديد إن وبالألف لفظا في هذان، ولم ينقل عن عائشة ولا عن غيرها تخطئة من قرأ بما ذكر، وكيف تنكر هذه القراءة وهي متواترة مجمع عليها؟ بل هي قراءة الأكثر ولها وجه فصيح في العربية لا يخفى على مثل عائشة ذلك هو إلزام المثنى الألف في جميع حالاته، وجاء منه قول الشاعر العربي:
واهًا لسلمى ثم واها واها
|
يا ليت عيناها لنا وفاها
|
|
وموضع الخلخال من رجلاها
|
بثمن يرضى به أباها
|
|
إن أباها وأبا أباها
|
قد بلغا في المجد غايتاها
|
فبعيد عن عائشة أن تنكر تلك القراءة، ولو جاء بها وحدها رسم المصحف.
ثالثا: أن ما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من تخطئة رسم المصحف في قوله تعالى: {ﯿ ﰀﰁ} بالياء مردود بما ذكره أبو حيان في (البحر) إذ يقول ما نصه: وذكر عن عائشة رضي الله عنها وعن أبان بن عثمان أن كتبها بالياء من خطأ كاتب المصحف. ولا يصح ذلك عنهما؛ لأنها عربيان فصيحان، وقطع النعوت مشهور في لسان العرب، وهو باب واسع ذكر عليه شواهد سيبويه وغيره.وقال الزمخشري: لا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه خطأ في خط المصحف، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يريد كتاب سيبويه، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان، وخفي عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام، وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة يسدها من بعدهم وخرقًا يرفوه من يلحقهم.
رابعًا: أن قراءة {ﯝ} بالواو لم ينقل عن عائشة أنها خطأت من يقرأ بها، ولم ينقل أنها كانت تقرأ بالياء دون الواو، فلا يعقل أن تكون خطأت من كتب بالواو.
[مناهل العرفان في علوم القرآن- الزرقاني- (1/ 393-394)].
خامسًا: لو ثبت عن أحد الصحابة -وهو لم يثبت- أنه قال بوجود خطأ نحوي أو إملائي في كتاب الله عز وجل، فهذا دليل صيانته وحفظه، لا دليل على تحريفه؛ لأنهم مع ذلك لم يمدوا يد الإصلاح لهذا الخطأ، بل ترك على حاله.
قال الشيخ الشيعي محمد هادي معرفت: “لیس وجود أخطاء إملائیة في رسم المصحف الشریف بالذي یمسّ کرامة القرآن:
أولا: القرآن -في واقعه- هو الذي یقرأ، لا الذي یکتب، فلتکن الکتابة بأي أسلوب، فإنّها لا تضرّ شیئًا ما دامت القراءة باقیة علی سلامتها الأولی التي کانت تقرأ علی عهد الرسول وصحابته الأکرمین.ولا شك أنّ المسلمین احتفظوا علی نصّ القرآن بلفظه المقروء صحیحًا، منذ الصدر الأوّل فإلی الآن، وسیبقی مع الخلود في تواتر قطعي.
ثانیًا: تخطئة الکتابة هی استنکار علی الکتبة الأوائل: جهلهم أو تساهلهم، ولیست قدحًا في نفس الکتاب، الذي: { لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت:42].
ثالثًا: إنّ وجود أخطاء ظلّت باقیة لم تتبدّل، یفید المسلمین في ناحیة احتجاجهم بها علی سلامة کتابهم من التحریف عبر القرون؛ إذ أنّ أخطاء إملائیة لا شأن لها، وکان جدیرًا أن تمدّ إلیها ید الإصلاح، ومع ذلك بقیت سلیمة عن التغییر، تکریمًا بمقام السلف فیما کتبوه، فأجدر بنصّ الکتاب العزیز أن یبقی بعیدًا عن احتمال التحریف، والتبدیل رأسًا.
وقلنا آنفا: إنّ الحکمة فی الإبقاء علی تلکم الأخطاء کانت هي الحذر علی نفس الکتاب: أن لا تمسّه ید سوء بحجّة الاصلاح، ومن ثم أصبحت سدّا منیعًا دون أطماع المغرضین، وبذلك بقي کتاب اللّه یشقّ طریقه الی الأبدیّة بسلام”.
[ التمهید فی علوم القرآن- محمد هادي المعرفت- (1/ 369)].
رابعا: إذا رجعنا إلى كتب الرافضة، وجدنا علمائهم يصرحون بوقوع التصحيف والتحريف في كتاب الله عز وجلّ بمثل ما هو مذكور في الرواية محل الشبهةجاء في الكافي عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، قَالَ : تَلَوْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليهالسلام (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)، فقال : «ذو عدل منكم ، هذا مما أخطأت فيه الكتاب».
[اسم الکتاب : الکافی- ط دار الحدیث المؤلف : الشيخ الكليني الجزء : 15 صفحة : 474]
وعلماء الشيعة مع هذه الرواية بين مصحح، ومحسن، وموثق، ومعتبر لتلك الرواية، ومن هؤلاء.
١- المجلسي في مرآة العقول جزء 26 صفحة 118
٢- محمد الجواهري في شرح العروة الوثقى الجزء : 3 صفحة : 209
٣- المحقق الإصفهاني في كشف اللثام الجزء : 1 صفحة : 397
٤- محمد آصف محسني في معجم الأحاديث المعتبرة الجزء : 2 صفحة : 385
٥- محمد حسین ابن قاریاغدی في البضاعة المزجاة الجزء : 3 صفحة : 114
٦- محمد تقى المجلسي في روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه الجزء : 4 صفحة : 463
٧- محمد رضا الگلپايگاني في تقريرات الحج الجزء : 3 صفحة : 42
٨- محمد صادق الروحاني في فقه الصادق الجزء : 11 صفحة : 96.
وغيرهم كثير، ومن ذلك قوله تعالى {قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:41] بفتح الياء في “عليّ”، فادعى أحد علماء الرافضة أن هذا من التصحيف الذي وقع في كتاب الله، وأن الصواب “عليّ” بالتنوين، أي عليّ بن أبي طالب.قال المازندراني: “{قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} لعله إشارة إلى أن قراءة قوله تعالى في سورة الحجر {قَالَ هَٰذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} بتنوين صراط وفتح اللام في (علي) تصحيف، وأن الحق هو الإضافة وكسر اللام”.
[ شرح أصول الكافي- الملا صالح المازندراني – (7/ 91)].
ورى الطبري الشيعي بسنده عن المفضل بن عمر، قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): يا مفضل، كيف يقرأ أهل العراق هذه الآية؟ قلت: يا سيدي، وأي آية؟ فقال: قول الله تعالى: (ويستعجل بها الذين امنوا بها والذين لا يؤمنون مشفقون منها) فقلت: يا سيدي، ليس كذا نقرأ فقال: كيف تقرأ؟ فقلت: (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق) فقال لي: ويحك! أتدري ما هي؟ فقلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: والله، ما هي إلا قيام القائم، وكيف يستعجل به من لا يؤمن به؟! والله ما يستعجل به إلا المؤمنون، ولكنهم حرفوها حسدًا لكم، فاعلم ذلك يا مفضل”.
[ دلائل الإمامة- محمد بن جرير الطبري- (ص 451)].
فانظر إلى التلاعب بآيات الله عز وجل، واتهام الصحب الكرام رضوان الله عليهم بتحريف القرآن العظيم.
مواضيع شبيهة