قول أبي بكر ياليتني كنت هذه التبنة، ليت أمي لم تلدني
قال شيخهم علي النباطي: “والشيخان قد أكذبا ما روى سعيد فيهما بجزعهما عند موتهما حتى قال الأول لابنته عائشة هلك أبوك هذا رسول الله معرض عني فقال عمر لا تخبروا بذلك فإنكم أهل بيت يعرف فيكم عند الموت الهذيان”
[اسم الکتاب : الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم المؤلف : النباطي، الشيخ علي الجزء : 1 صفحة : 143].
وقال الحلي عن أبي بكر الصديق : “وقال عند احتضاره: ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت تبنه في لبنة!!”.
[اسم الکتاب : منهاج الكرامة في معرفة الإمامة المؤلف : العلامة الحلي الجزء : 1 صفحة : 99].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: الروايات في ذلك إنما تنسب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لا للصديق، ومع ذلك فهي أيضا لا يثبت لها إسناد، ولم يثبت عن عمر الا انه قال “وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلاَعَ الأَرْضِ ذَهَبًا لاَفْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ»
[البخاري، صحيح البخاري، ١٢/٥].
وقد تم الرد على ذلك في جواب شبهة (زعم الشيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جزع عند موته) ولذلك قال شيخ الاسلام رحمه الله ان هذا لم يثبت عن ابي بكر رضي الله : ” قَالَ الرَّافِضِيُّ : ” وَقَالَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ: لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي! يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تِبْنَةً فِي لَبِنَةٍ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ نَقَلُوا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: ” «مَا مِنْ مُحْتَضِرٍ يَحْتَضِرُ إِلَّا وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ» “.وَالْجَوَابُ: أَنَّ تَكَلُّمَهُ بِهَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، بَلِ الثَّابِتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ، وَتَمَثَّلَتْ عِنْدَهُ عَائِشَةُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْفَتَى … إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ
فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ قَوْلِي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [سُورَةُ ق: 19] “.
[منهاج السنة النبوية – ابو العباس احمد بن عبد الحليم بن تيمية – ج 5 ص 482 ].
ثانيا: لو ثبت ذلك عن الصديق رضي الله عنه لدل على شدة خوفه رضي الله عنه من الله تعالى وتعظيمه لربه، وهذا من كمال فضله، وعلو شأنه في الدين؛ ولهذا أثنى الله في كتابه على عباده الخائفين منه، المشفقين من عذابه، في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}
[النازعات:40].
وقد اعترف علماء الشيعة بأن هذا من التواضع لله ونفي الكبر يقول الفيض الكاشاني في كتابه المحجة البيضاء: “فلا ينبغي أن يكون العالم أكبر عند نفسه من الصحابة؟ و قد كان بعضهم يقول: يا ليتني لم تلدني أمّي، و يأخذ الآخر تبنة من الأرض و يقول: يا ليتني كنت هذه التبنة، و يقول الآخر: يا ليتني كنت طيرا، كلّ ذلك خوفا من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير و من التراب و مهما أطال فكره في الخطر الّذي هو بصدده زال بالكلّية كبره و رأى نفسه كأنّه شرّ الخلق. و مثاله مثال عبد أمره سيّده بامور فشرع فيها و ترك بعضها و أدخل النقصان في بعضها و شكّ في بعضها أنّه هل أدّاها كما يرتضيه مولاه أم لا فأخبر مخبر أنّ مولاه مرسل إليه رسولا يخرجه من كلّ ما هو فيه عريانا ذليلا و يلقيه على بابه في الشمس و الحرّ زمانا طويلا حتّى إذا ضاق عليه الأمر و بلغ به الجهد أمر برفع حسابه و فتّش عن جميع أعماله قليلها و كثيرها ثمّ أمر به إلى سجن ضيق و عذاب دائم لا يروح عنه ساعة، و قد علم أنّ سيّده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك و عفى عن بعضهم و هو لا يدري في أيّ الفريقين يكون فإذا تفكّر في ذلك انكسرت نفسه و ذلّ و بطل عزّه و كبره و طهر حزنه و خوفه و لم يتكبّر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب، فكذلك العالم إذا تفكّر فيما ضيّعه من أوامر ربّه بجنايات على جوارحه و بذنوب في باطنه من الرّياء و الحقد و الحسد و العجب و النفاق و غيره و علم ممّا هو بصدده من الخطر العظيم فارقه كبره لا محالة”.
[كتاب المحجة البيضاء للفيض الكاشاني ٦/٢٦٢].
وعليه فهذا غاية المدح للصديق رضي الله عنه.
ثالثا: إنّ كتب الرافضة قد ورد فيها ما يدل على أن الأئمة كان يصيبهم مثل هذه الأحوال عند الموت، ولم يقل أحدٌ منهم أن هذا كان جزعًا منهم، أو شكّك بمثله في مقامهم.فقد روى الصدوق، بسنده، عن الحسين بن على، عليهم السلام، قال: لما حضرت الحسن بن على الوفاة، بكى، فقيل له: يا ابنَ رسول الله أتبكي ومكانك من رسول الله (ص) مكانك الذي أنت فيه، وقد قال: رسول الله (ص) فيك ما قال، وقد حججت عشرين حجة ماشيًا، وقد قاسمت ربك مالك ثلاث مرات حتى النعل وبالنعل. فقال: إنما أبكي لخصلتين: لهول المطلع، وفراق الأحبة”.
[عيون أخبار الرضا (2/ 271)].
فهل يقال إن بكاء الحسن رضي الله عنه عند موته دليلٌ على جزعه، وشهادةٌ على نفسه بعدم النجاة مثلًا؟ وهو أحد الأئمة المعصومين عند الرافضة.كما ورد أيضًا في مناجاة السجاد، أنه كان يتمنى لو لم يُولد أصلًا، قال محمد تقي المدرسي:“أو لم تسمع مناجاة الإمام السجاد علي بن الحسين، عليه السلام: لَيْتَ شِعْرِي أَلِلشَّقَاءِ وَلَدَتْنِي أُمِّي أَمْ لِلْعَنَاءِ رَبَّتْنِي، فَلَيْتَهَا لَمْ تَلِدْنِي، وَلَمْ تُرَبِّنِي، وَلَيْتَنِي عَلِمْتُ أَمِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ جَعَلْتَنِي وَبِقُرْبِكَ وَجِوَارِكَ خَصَصْتَنِي فَتَقِرَّ بِذَلِكَ عَيْنِي وَتَطْمَئِنَّ لَهُ نَفْسِي”
[من هدى القرآن (12/192)].
ومثل هذا الكلام مما لا إشكال فيه عند أهل الفهم السوي، والفطرة المستقيمة.بل هذه الصديقة مريم، يقول عنها الله تبارك وتعالى: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23].فهل يتجرأ الرافضة على الطعن في مريم، عليها السلام، أو في الإمام السجاد،كما صنعوا مع الصديق رضي الله عنه؟هذه الرواية نفسَها قد وردت في كتب الرافضة عن الصحابة المنتجبين عندهم، ومن ذلك ما رواه ابن طاووس: “لما نزلت هذه الآية على {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:43-44] بكى النبي صلى الله عليه وسلم بكاءً شديدًا وبكت صحابته لبكائه… فسمع سلمان، فقال: يا ليتني كنت كبشا لأهلي فأكلوا لحمي، ومزقوا جلدي ولم أسمع بذكر النار، وقال أبو ذر: يا ليت أمي كانت عاقرًا ولم تلدني ولم أسمع بذكر النار ، وقال عمار : يا ليتني كنت طائرا في القفار، لم يكن علي حساب ولا عقاب، ولم أسمع بذكر النار ، وقال علي عليه السلام: يا ليت السباع مزقت لحمي، وليت أمي لم تلدني، ولم أسمع بذكر النار”.
[ الدّروع الواقية (ص274)]،
[بحار الأنوار (43/ 87 ح 9)].
فهل يقال إن أبا ذر وسلمان، رضي الله عنهما – وهما من الصحابة المنتجبين عند الرافضة – قد جَزِعَا، وشَكَّا في كونهما من أهل الجنة؟
وماذا يقول الرافضة عن قول قسيم الجنة والنار عندهم، وتمنيه أن لو كانت السباع قد مزقت لحمه، وأن لو لم تلده أمُّه أصلًا؟
وعليه فما ورد عن الأعلام في ذلك ما هو إلا مدح لهم كونه استصغار للنفس أمام الله تعالى ولا يقول عن هذا أنه طعن الا جاهل حاقد.
مواضيع شبيهة