زيارة عائشة رضي الله عنها لقبر أخيها، مع أن رسول الله لعن زائرات القبور.
يحاول البعض النَّيْل من أم المؤمنين رضي الله عنها بأي طريقة، ومن ذلك القول بأنها خالفت النهي الوارد في منع النساء من زيارة القبور، وزارت قبر أخيها، مع وجود النهي، بل اللعن على هذا الفعل.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: الحديث ورد بلفظين: “لعن الله زائرات القبور“، و”لعن الله زوارات القبور“.واللفظ الأول ضعيف، والمحفوظ هو الثاني، كما بين ذلك أهل العلم. قال الألباني: “فإن قيل: فلماذا لم تستدل بالحديث المشهور الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم عن ابن عباس: “لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج”. وجوابي عليه: أن هذا الحديث مع شهرته ضعيف الاسناد، لا تقوم به حجة، وإن تساهل كثير من المصنفين فأوردوه في هذا الباب وسكتوا عن علته، كما فعل ابن حجر في (الزواجر)، ومن قبله العلامة ابن القيم في (زاد المعاد)، واغتر به جماهير السلفيين وأهل الحديث فاحتجوا به في كتبهم ورسائلهم ومحاضراتهم.وقد كنت انتقدت ابن القيم من أجل ذلك فيما كنت علقته على كتابه، وبينت علة الحديث مفصلاً هناك، ثم في (سلسلة الاحاديث الضعيفة) (رقم 223)، ثم رأيت ابن القيم في (تهذيب السنن) (4/342) نقل عن عبد الحق الإشبيلي أن في سند الحديث باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جدًا، وأقره ابن القيم، فالحمد لله على توفيقه”.
[ أحكام الجنائز- الألباني- (ص 232)].
وقال أيضًا: “أما الحديث المعروف: “لعن الله زائرات القبور”، فالحديث مروي بلفظين اثنين: اللفظ الأول هو هذا: “زائرات”، وهو ضعيف، أما اللفظ الآخر، فهو بلفظ: “زوارات”، أي: اللاتي يكثرن الزيارة”.
[ موسوعة الألباني في العقيدة- الألباني- (2/ 450)].
فهذا اللفظ (زائرات) ضعيف، وعليه فلا تقوم به حجة، والصحيح لفظ (زوارات) صيغة مبالغة، أي كثيرة الزيارة.
ثانيًا: مسألة زيارة المقابر للنساء محل خلاف بين أهل العلم، والأقوى هو الجواز إذا لم تكثر المرأة من هذه الزيارة، ولم تفعل ما يخالف الشرع.قال محمد الأمين الشنقيطي: “وَقَالَ الْمُجِيزُونَ: إِنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ ضِمْنًا فِي خِطَابِ الرِّجَالِ، كَدُخُولِهِنَّ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة:43]، فَإِنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ قَطْعًا.وَقَالُوا: إِنَّ اللَّعْنَ الْمُنَوَّهَ عَنْهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِرِوَايَتَيْنِ رِوَايَةِ: «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُور”.وَجَاءَ: “لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذَاتِ عَلَيْهِنَّ السُّرُجَ” إِلَى آخِرِهِ. فَعَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ: (زَوَّارَاتٌ) لَا تَشْمَلُ مُطْلَقَ الزِّيَارَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَصُّ لِلْمُكْثِرَاتِ؛ لِأَنَّهُنَّ بِالْإِكْثَارِ لَا يَسْلَمْنَ مِنْ عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَعْدَادِ مَآثِرِ الْمَوْتَى الْمَحْظُورِ فِي أَصْلِ الْآيَةِ.أَمَّا مُجَرَّدُ زِيَارَةٍ بِدُونِ إِكْثَارٍ وَلَا مُكْثٍ، فَلَا.وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا ذَكَرَ لَهَا ، السَّلَامَ عَلَى أَهْلِ الْبَقِيعِ، فَقَالَتْ: «وَمَاذَا أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا زُرْتُ الْقُبُورَ؟ قَالَ: قُولِي: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ آلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» الْحَدِيثَ. فَأَقَرَّهَا ، عَلَى أَنَّهَا تَزُورُ الْقُبُورَ وَعَلَّمَهَا مَاذَا تَقُولُ إِنْ هِيَ زَارَتْ.وَكَذَلِكَ بِقِصَّةِ مُرُورِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي تَبْكِي عِنْدَ الْقَبْرِ فَكَلَّمَهَا، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ مَنْ هُوَ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهَا قِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ، جَاءَتْ تَعْتَذِرُ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى”.وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا الْمَنْعَ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، مَعَ أَنَّهُ رَآهَا تَبْكِي.وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ صَرِيحَةٌ فِي السَّمَاحِ بِالزِّيَارَةِ. وَمِنْ نَاحِيَةِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ النَّتِيجَةَ مِنَ الزِّيَارَةِ لِلرِّجَالِ مَنْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهَا كَذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُرَغِّبُ فِي الْآخِرَةِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِخَاصَّةٍ فِي الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، بَلْ قَدْ يَكُنُّ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ.
وَعَلَى كُلٍّ، فَإِنَّ الرَّاجِحَ مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، هُوَ الْجَوَازُ لِمَنْ لَمْ يُكْثِرْنَ وَلَا يَتَكَلَّمْنَ بِمَا لَا يَلِيقُ، مِمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى”.
[ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن- محمد الأمين الشنقيطي- (9/78-79)].
ثالثًا: لو صح لفظ “لعن الله زائرات القبور”، فإنه يحمل على المرأة التي تتقصد زيارة القبور، أما عائشة رضي الله عنها فإنه جاءت زيارتها لقبر أخيها عرضًا واتفاقًا من غير تقصد.قال ابن عثيمين: “يفرق بين المرأة إذا خرجت بقصد الزيارة، وإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فلا حرج أن تسلم على أهل القبور، وأن تدعو لهم بما قاله النبي r لعائشة رضي الله عنها”.
[ الشرح الممتع على زاد المستقنع- ابن عثيمين- (5/382)].
وقال محمد حسن عبد الغفار: “أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها ما سافرت قاصدة قبر أخيها، وقد جاء في بعض الروايات -وإن كان فيها ضعف- أنها قالت: لو شهدته ما زرته، يعني: لو شهدت موته وصليت عليه مثلاً ودعوت له ما ذهبت إلى قبره”.
[ شرح كتاب الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق لابن تيمية- محمد حسن عبد الغفار- (7/6)].
رابعًا: قرر أحد علماء الرافضة أن حديث النهي منسوخ بفعل عائشة رضي الله عنها لما أقرّها النبي .قال السبحاني:” فلو افترضنا صحّته فإنّه منسوخ بما قام به النبيّ في أُخريات حياته، فقد زار البقيع مع زوجته عائشة، حيث روت عن النبي أنّه قال ص: “إنّ جبرئيل أتاه، فقال له: إنّ ربّك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قال: قلت: كيف أقول لهم يا رسول اللّه؟ قال: قولي: السَّلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين، وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون”.[ الحديث النبوي بين الرواية والدراية- جعفر السبحاني- (ص 467)].
خامسًا: رواية لعن الله زائرات القبور، استدل بها بعض علماء الرافضة في كتبهم الفقهية، في الاستدلال على نهي المرأة عن اتباع الجنازة.قال الطوسي: “فإذا فرغت الأم من تجهيز الابن لا يجوز أن تتبع الجنازة إلى المقبرة؛ لأن النساء قد نهين عن زيارة القبور، روي عنه عليه وآله السلام أنه قال: “لعن الله زائرات القبور”.
[ المبسوط في فقه الإمامية- الطوسي- (6/ 41)].
ونقل هذه العبارة صاحب (الينابيع الفقهية)، فقال: “فإذا فرغت الأم من تجهيز الابن لا يجوز أن تتبع الجنازة إلى المقبرة، لأن النساء قد نهين عن زيارة القبور، روي عنه عليه وآله السلام أنه قال: “لعن الله زائرات القبور”.
[لينابيع الفقهية- علي أصغر مرواريد – (38/ 392)].
فيمكن أن نقلب الإلزام على الرافضة، بحمل اللعن الوارد على فاطمة رضي الله عنها، وحاشاها التي كانت تزور القبور، بل وتكثر من الزيارة بصورة مستمرة.
روى الصدوق مرسلاً: كانت فاطمة عليها السلام تأتي قبور الشهداء كلّ غداة سبت، فتأتي قبر حمزة فتترحّم عليه وتستغفر له.
[ من لا يحضره الفقيه- الصدوق- (1 /180)].
وروى الكليني بإسنادين صحيحين عن ابن أبي عمير وعن النضر بن سويد، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرّتين الاثنين والخميس، فتقول: هاهنا كان رسول اللّه هاهنا كان المشركون .
[الكافي- الكليني- (3 / 228)، (4 / 561)].
فهل سينزل الرافضة حديث النهي واللعن على المعصومة؟ أم سيجدون له مخارج وتأويلات؟
مواضيع شبيهة