زعموا أن أبا بكر منع فاطمة ميراثها وأعطى عائشة ميراثها.
يقول التيجاني: “وإذا كان النبي لا يورّث ـ كما شهد بذلك أبو بكر نفسه، ومنع ذلك ميراث الزهراء ـ سلام الله عليها ـ من أبيها ـ فكيف ترث عائشة؟ فهل هناك في كتاب الله آية تعطي الزوجة حقّ الميراث وتمنع البنت؟ أم أنّ السياسة هي التي أبدلت كلّ شيء فحرمت البنت من كُلّ شيء، وأعطت الزوجة كلّ شيء؟”.
[اسم الکتاب : ثم اهتديت (تحقيق وتعليق مركز الأبحاث العقائدية) المؤلف : التيجاني السماوي، محمد الجزء : 1 صفحة : 495].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: لم يقل أحد قط بأن أبا بكر ورّث أم المؤمنين عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ورّث أحدا قط، والرافضة يقولون إن إبقاء النساء في بيوتهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو توريث لهن وهذا باطل وذلك أن الحجرات آلت إليهن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طريق الميراث.
ويثبت ذلك بطريق واحد من إحدى هذه الطرق:
الطريق الأول: أن يقال إن الحجرات كانت من النفقة التي تجب لأزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في حياته وبعد مماته، قال ابن حزم “وَاتَّفَقُوا أَن بِنَاء مَا يسْتَتر بِهِ الْمَرْء هُوَ وعياله وَمَاله من الْعُيُون وَالْبرد وَالْحر والمطر فرض أَو اكْتِسَاب منزل أَو مسكن يستر مَا ذكرنَا”.
[ابن حزم، مراتب الإجماع، صفحة ١٥٥].
بل حتى المطلقة قد أوجب الله لها السكنى بقوله تعالى (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)
[سورة الطلاق 6].
وقال الطوسي “السكني والنفقة يجب للرجعية بلا خلاف”.
[اسم الکتاب: التبيان في تفسير القرآن المؤلف: الشيخ الطوسي الجزء: 10 صفحة: 36].
ومعلوم أن هذا الوجوب للسكنى والنفقة إنما كان لحبس الزوجة على زوجها، والحكم يدور مع علته وجوبا وعدما، ومعلوم أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم محبوسات عليه بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز نكاحهن أبدا، فكان لهن على رسول الله صلى الله عليه وسلم السكنى والنفقة ولأجل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم– «لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا مَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي، وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ» اللفظ للبخاري [البخاري، صحيح البخاري، ١٢/٤] [مسلم، صحيح مسلم، ١٣٨٢/٣].
وعند الرافضة في التهذيب 8: 151/ 525، والاستبصار 3: 345/ 1232: عن “محمد بن مسلم- في الصحيح- عن أحدهما عليهما السلام، قال: «المتوفّى عنها زوجها ينفق عليها من ماله”.
[ مختلف الشيعة في أحكام الشريعة المؤلف: العلامة الحلي الجزء: 7 صفحة: 476].
والنفقة ملك للزوجة بلا خلاف، ومن جملة النفقة سكنى الزوجة، ومنه علمنا أن بيوت أمهات المؤمنين كانت ملكا لهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعد مالكا لأمواله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا ملك لميت، فآلت الملكية إلى زوجاته من بعده صلى الله عليه وآله وسلم.ولذلك قال الحافظ ابن حجر: “«(قَوْلُهُ بَابُ مَا جَاءَ فِي بُيُوتُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا نُسِبَ مِنَ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ)
وَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} قَالَ بن الْمُنِيرِ غَرَضُهُ بِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ تُحَقِّقُ دَوَامَ اسْتِحْقَاقِهِنَّ لِلْبُيُوتِ مَا بَقِينَ لِأَنَّ نَفَقَتَهُنَّ وَسُكْنَاهُنَّ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسِّرُّ فِيهِ حَبْسُهُنَّ عَلَيْهِ»
[«فتح الباري لابن حجر» (6/ 211)].
الطريق الثاني: أن نقول إن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد وهب لأزواجه تلك البيوت حال حياته، وصارت الهبة متحققة مع القبض، كما أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بنى بيتا لفاطمة وسلَّمَه لها فكان علي يسكن فيه مع زوجته فاطمة ولم يرد نص صحيح أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد ملَّك فاطمة وعليه البيت، إنما جرت العادة أن من تسلم بيتا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصرف فيه تصرف المُلَّاك، ولأجل ذلك كان الإذن من زوجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد وفاته في دخول تلك البيوت وقد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [سورة اﻷحزاب 53] فكان الإذن والملك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم له وحده فلما مات، انتقل الملك والإذن إلى زوجاته من بعده، ولم ينازع في هذا أحد ولذلك استأذن عمرُ عائشةَ أن يُدفن مع صاحبيه في الحجرة، وطلب الحسن استئذان عائشة في ذلك كما سيأتي، وهذا إقرار منهم رضي الله عنهم أن البيت ملك لأم المؤمنين عائشة لأن السؤال والاستئذان دليل الملكية، وإلا لم يكن لهما معنى.
الطريق الثالث: أن الله أضاف البيوت لأمهات المؤمنين المؤمنين فقال (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) [سورة اﻷحزاب 33]. وقال (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ). [سورة اﻷحزاب 34] ، فهذه الإضافة عند التأمل يظهر لك أنها متعلقة بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومماته، فلما كانت إضافة البيوت إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- منصرفة لكونه المالك لها في حياته، وجب أن تحمل الإضافة في تلك الآيات على ملكية أزواج النبي لتلك البيوت بعد وفاته، وإلا فمن المعلوم أن قرار زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في بيوتهن مستمر بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا قلنا بعدم أحقية زواجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لتلك البيوت لصار هناك تعارضا بين الأمر بالقرار في البيوت، والأمر بإخراجهن من بيوتهن.
الطريق الرابع: أن يقال إن مال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صار وقفا على المسلمين، وللخليفة حق إدارة هذا الوقف وتصريفه حيث شاء في مصالح المسلمين، وأولى مصلحة متعلقة بمال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كفالة ازواجه من بعده ولذلك، “قاله المالكية فيمن كان له سكنى دار وقفا عليه فمات أن امرأته تستحق السكنى حتى تنقضي عدتها لأنه من تمام سكنى عياله المتعلق به وإذا تقر هذا فمنافع الأرض الخراجية إذا كانت مع من هو متقبل لها بالخراج أو مع من يجوز له الانتفاع بها من مستحقي الفي فهو مالك لها”.
[ابن رجب الحنبلي، الاستخراج لأحكام الخراج، صفحة ١٢٥].
بل حتى ولو قلنا بأنها لا تكون وقفا وإنما آلت لبيت المال حيث لا مالك لها فيجوز للخليفة بيعها وصرفها في مصلحة المسلمين، قال ابن رجب “أرض بيت المال المنتقلة إليه عمن لا وارث له أنه يجوز بيعها وصرف ثمنها في المصالح على قولنا أنها لا تصير وقفا”. [ابن رجب الحنبلي، الاستخراج لأحكام الخراج، صفحة ١٣٢].
بل حتى عند مخالفة شرط الواقف إذا كان لمصلحة راجحة فهذا جائز قال في البحر الرائق: ” تَصَرُّفَ الْقَاضِي فِي الْأَوْقَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ لَا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَ فَلَوْ فَعَلَ مَا يُخَالِفُ شَرْطَ الْوَاقِفِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ”
[ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري، ٢٤٥/٥].
كل هذا يدلك على أن مال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلنا بعدم وجوب النفقة والسكني فيه لزوجات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فإنه يجب على الخليفة ألا يضيع أمهات المؤمنين، بل هذا من أوجب الواجبات على الخليفة. فهذه أربعة أوجه لملكية أزواج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لبيوتهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يظهر فساد قولهم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لزم من ذلك أن فاطمة ورثت بيتها الذي عاشت فيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه كان ضمن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم والتي أسكنها في حياته لعلي وفاطمة.
ثانيا: دائما ما يتناقض الشيعة مع أنفسهم وذلك أن صاحب الشبهة ذكر في نفس الصفحة أن أم المؤمنين عائشة طلبت ميراثها من عثمان رضي الله عنه، ولو كانت قد أخذت ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان أبيها لما طالبت به عثمان رضي الله عن الجميع.
يقول التيجاني : “جاءت عائشة وحفصة ودخلتا على عثمان أيّام خلافته، وطلبتا منه أن يقسم لهما إرثهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان عثمان متّكئاً فاستوى جالساً وقال لعائشة : أنت وهذه الجالسة جئتما بأعرابي يتطهّر ببوله، وشهدتما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)قال : « نحن معشر الأنبياء لا نورّث »، فإذا كان الرسول حقيقةً لا يورّث فماذا تطلبان بعد هذا؟! وإذا كان الرسول يورّث لماذا منعتم فاطمة حقّها؟ فخرجت من عنده غاضبة”.
[اسم الکتاب : ثم اهتديت (تحقيق وتعليق مركز الأبحاث العقائدية) المؤلف : التيجاني السماوي، محمد الجزء : 1 صفحة : 495].
وهذه رواية مكذوبة لا شك لكننا نقلناها لبيان تناقض القوم مع أنفسهم في نفس اللحظة، وهذا الذي ذكره التيجاني يتناقض مع ما ثبت في الموطأ وعنه في الصحيحين. عن «مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا نُورَثُ. مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ»
[«موطأ مالك – رواية يحيى» (5/ 1444 ت الأعظمي)].
[«صحيح البخاري» (6/ 2475 ت البغا)].
[«صحيح مسلم» (5/ 153 ط التركية)].
وعليه فأم المؤمنين لم تطالب قط بميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترث.
ثالثا: روى الشيعة في كتبهم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم ترث شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى المفيد بسنده: “عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: جَاءَتْ عَائِشَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَتْ لَهُ أَعْطِنِي مَا كَانَ يُعْطِينِي أَبِي وَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهَا لَا أَجِدُ لَكِ مَوْضِعاً فِي الْكِتَابِ وَ لَا فِي السُّنَّةِ وَ إِنَّمَا كَانَ أَبُوكِ وَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُعْطِيَانِكِ بِطِيبَةٍ مِنْ أَنْفُسِهِمَا وَ أَنَا لَا أَفْعَلُ قَالَتْ لَهُ فَأَعْطِنِي مِيرَاثِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص فَقَالَ لَهَا أَ وَ لَمْ تَجِيئِينِي أَنْتِ وَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِيُ فَشَهِدْتُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص لَا يُورِثُ حَتَّى مَنَعْتُمَا فَاطِمَةَ مِيرَاثَهَا وَ أَبْطَلْتُمَا حَقَّهَا فَكَيْفَ تَطْلُبِينَ الْيَوْمَ مِيرَاثاً مِنَ النَّبِيِّ ص فَتَرَكَتْهُ وَ انْصَرَفَتْ
[اسم الکتاب : الأمالي المؤلف : الشيخ المفيد الجزء : 1 صفحة : 125].
وعلى الرغم من كذب تلك الرواية إلا أنها حجة على الشيعة في كون أم المؤمنين عائشة لم ترث شيئا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كانت تطالب بالعطاء الذي يُعطيه الخليفة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضمن ما يعطيه للمهاجرين والأنصار، وإلا فلو كانت قد ورثت لقال لها عثمان كيف تطالبين الميراث وقد ورثتي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
مواضيع شبيهة