دعوى تناقض أهل السنة في خلافة ابي بكر من ناحية النص والشورى.
قال الشيعة إن أهل السنة تناقضوا في إثبات خلافة ابي بكر فبعضهم قال ثبتت بالنص، وبعضهم قال بالشورى، وهذا تناقض في طريق إثبات الخلافة لأبي بكر، وإذا كانت الخلافة بالشورى فكيف تسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يستخلفه.
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: الخليفة هو الذي يخلف غيره، وإن لم يستخلفه وهذا معروف في اللغة، وقد يكون بمعنى من استخلفه غيره.قال ابن تيمية رحمه الله: وَالْخَلِيفَةُ لَا يَكُونُ خَلِيفَةً إِلَّا مَعَ مَغِيبِ الْمُسْتَخْلِفِ، أَوْ مَوْتِهِ (1) ، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيفَةٌ فِيهَا، كَمَا أَنَّ سَائِرَ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ انْقَضَتْ خِلَافَتُهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ وُلَاةِ الْأُمُورِ إِذَا اسْتَخْلَفَ أَحَدُهُمْ عَلَى مِصْرِهِ فِي مَغِيبِهِ بَطَلَ اسْتِخْلَافُهُ ذَلِكَ إِذَا حَضَرَ الْمُسْتَخْلِفُ.وَلِهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَسْتَخْلِفُ أَحَدًا عَنْهُ، فَإِنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ شَهِيدٌ (2) مُدَبِّرٌ لِعِبَادِهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْمَوْتِ، وَالنَّوْمِ، وَالْغَيْبَةِ.وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ. قَالَ: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللَّهِ، بَلْ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، وَحَسْبِي ذَلِكَ (3) .وَاللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْعَبْدَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ» ” (4) ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ: ” «وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ” (5)وَكُلُّ مَنْ وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْخِلَافَةِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَلِيفَةٌ عَنْ مَخْلُوقٍ كَانَ قَبْلَهُ.كَقَوْلِهِ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} (سُورَةُ يُونُسَ: 14) {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 69) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (سُورَةُ النُّورِ: 55) .وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 30) أَيْ: عَنْ خَلْقٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا ذَكَرَ (1) الْمُفَسِّرُونَ، وَغَيْرُهُمْ
[«منهاج السنة النبوية» (7/ 352)].
ثانيا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه من قوة أدلتها وجدناها ثبتت بالنص -على خلاف في كونه جليا أو خفيا-، وكذلك ثبتت باختيار الصحابة وإجماعهم على الصديق ومبايعتهم له، وكلما كان الأمر من المسلمات كلما وجدت أدلته غاية في القوة والتنوع فأنت تجد التوحيد أو النبوة أو حتى الصلاة تجد أن أدلة هذه المسلّمات متنوعة بين دليل قرآني أو حديثي أو إجماع أو عقل أو غير ذلك، وهذا يرسخ في الذهن القضية محل الاستدلال بلا شك.
وإليك بعض الطرق في أدلة خلافة الصديق
أولا: من القرآن:
الدليل الأول: قوله تعالى { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ }[سُورَةُ النُّورِ: ٥٥]، وقد تحقق ذلك في خلافة الصديق عند كل منصف فقد مكن الله له ولدينه في الأرض وابدلهم من بعد خوفهم أمنا وجعلهم سادة وقادة الدنيا .وقوله تعالى { یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ یُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤىِٕمࣲۚ ذَ ٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ (٥٤) إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمۡ رَ ٰكِعُونَ (٥٥) وَمَن یَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَـٰلِبُونَ (٥٦) }
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٥٤-٥٦]
فكان أظهر مصداق لمن يحبهم الله ويحبونه هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في زمان الصديق لما حصلت الردة وحققوا ولاية الله وولاية رسوله صلى الله عليه وسلم جعلهم هم الغالبون وأعداؤهم هم المغلوبون.
الدليل الثاني: قوله تعالى: { قُل لِّلۡمُخَلَّفِینَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ سَتُدۡعَوۡنَ إِلَىٰ قَوۡمٍ أُو۟لِی بَأۡسࣲ شَدِیدࣲ تُقَـٰتِلُونَهُمۡ أَوۡ یُسۡلِمُونَۖ فَإِن تُطِیعُوا۟ یُؤۡتِكُمُ ٱللَّهُ أَجۡرًا حَسَنࣰاۖ وَإِن تَتَوَلَّوۡا۟ كَمَا تَوَلَّیۡتُم مِّن قَبۡلُ یُعَذِّبۡكُمۡ عَذَابًا أَلِیمࣰا }
[سُورَةُ الفَتۡحِ: ١٦].
قال القرطبي في تفسير هذه الآية قَوْلُهُ تَعَالَى:” قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ” أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ.” سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ” قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُمْ فَارِسُ. وَقَالَ كَعْبٌ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى: الرُّومُ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هَوَازِنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ: بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ. وَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَا مَضَى” سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ” فَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ تَأْتِ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدُ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَرُدُّهُ. الثَّانِيَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، وَعُمَرَ دَعَاهُمْ إِلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ. وَأَمَّا قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ إِنَّ ذَلِكَ فِي هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَا، لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ قَالَ” لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا” «1» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالدَّاعِي غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَدْعُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
[«تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن» (16/ 272)].
الدليل الثالث: قوله تعالى { كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ}
[سُورَةُ آلِ عِمۡرَانَ: ١١٠].
والمخاطب بهذه الآية هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت ولاية أبي بكر حرامًا منكرًا لوجب أن ينهوا عن ذلك، ولو كانت ولاية علي واجبة لكان ذلك من أعظم المعروف الذي يجب أن يأمروا به، وإذا شهدوا أن أبا بكر أحق بالإمامة وجب أن يكونوا صادقين في هذه الشهادة.فثبت صحة خلافة الصديق من القرآن .
ثانيا: من السنة:
فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بوقوعها على سبيل المدح والحمد لها والرضا بها، ودل الأمة وأرشدها إلى بيعته ومن ذلك ما جاء في الصحيحين « أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم، رأيتني على قليب عليها دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَاللَّهُ يغفر له ضعفه، ثم استحالت غربا، فأخذها ابن الْخَطَّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن)»
[«صحيح البخاري» (3/ 1340 ت البغا)].
[«صحيح مسلم» (7/ 113 ط التركية)].
فهذا مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأما قوله صلى الله عليه وسلم عن خلافة ابي بكر (وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ) فهذا إشارة إلى قلة سني خلافته، وهو ما وقع فعلا، ولو كانت خلافتهما لا ترضي الله تعالى او أنها غير صحيحة لما مدحها النبي -صلى الله عليه وسلم-.وفي صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ” لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ، وَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ يَدْفَعُ اللهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ.»
[«صحيح البخاري» (7/ 119 ط السلطانية)].
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ هَمُّهُ بِأَنْ يَكْتُبَ لِأَبِي بَكْرٍ كِتَابًا بِالْخِلَافَةِ ; لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا (2) أَوْلَى، ثُمَّ قَالَ: ” «يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ» ” فَلَمَّا عَلِمَ الرَّسُولُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَخْتَارُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، وَالْمُؤْمِنُونَ لَا يَخْتَارُونَ إِلَّا إِيَّاهُ اكْتَفَى بِذَلِكَ عَنِ الْكِتَابِ، فَأَبْعَدَ اللَّهُ مَنْ لَا يَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
[«منهاج السنة النبوية» (8/ 571)].
وفي هذا فضيلة عظيمة للأمة لأن الأمة إذا رشدت وولت الصديق طوعًا بغير إلزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة، ودل على علمها ودينها؛ فإنها لو ألزمت به لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره، كما كان يجري ذلك لبني إسرائيل، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقديم بالأنساب، فكان ما اختاره الله لنبيه أفضل، ولهم أفضل.وروى الإمام أحمد «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” أُرِيَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ بِرَسُولِ اللهِ، وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ، وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمَرَ “، قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا ذِكْرُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نَوْطِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
[«مسند أحمد» (23/ 124 ط الرسالة)].
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” «رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيَتْ مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا (1) ، فَشَرِبَ مِنْهُ شُرْبًا ضَعِيفًا، قَالَ عَفَّانُ: وَفِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا، فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ، فَانْتَشَطَتْ مِنْهُ، فَانْتَضَحَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ “»
[«مسند أحمد» (33/ 385 ط الرسالة)].
وفي سنن أبي داود: “عَنْ سَفِينَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يُؤْتِي اللهُ الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ أَوْ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ.».
[«سنن أبي داود» (4/ 343 ط مع عون المعبود)].
وكل هذا غاية المدح لخلافة الصديق وأنها مرضية عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين.فهذه إشارات واضحة لمدح النبي -صلى الله عليه وسلم- لخلافة أبي بكر والإشارة إليها وحمدها.
وأما الأمر بطاعة الصديق وتفويض الأمر إليه،عنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ]»
[«الطبقات الكبرى ط العلمية» (2/ 254)[سنن الترمذي (3662) ، (3805) ، وسنن ابن ماجة (97) ، ومسند أحمد (382) ، (385) ، (399) ، (401) ، (402) ، والسنن الكبرى (5/ 12) ، (8/ 153) ، والمستدرك (3/ 75) ، ومجمع الزوائد (9/ 53، 295) ، وحلية الأولياء (9/ 190) ، ومسند الحميدي (949) ، والمعجم الكبير للطبراني (9/ 68) ].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “«أَخْبَرَ أَنَّهُمَا مِنْ بَعْدِهِ، وَأَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فَلَوْ كَانَا ظَالِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ (5) فِي كَوْنِهِمَا بَعْدَهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالظَّالِمِ، فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَكُونُ قُدْوَةً يُؤْتَمُّ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 124] فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الظَّالِمَ لَا يُؤْتَمُّ بِهِ. وَالِائْتِمَامُ هُوَ الِاقْتِدَاءُ؛ فَلَمَّا أَمَرَ بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ بَعْدَهُ وَالِاقْتِدَاءُ هُوَ الِائْتِمَامُ مَعَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُمَا يَكُونَانِ بَعْدَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا إِمَامَانِ [قَدْ أُمِرَ بِالِائْتِمَامِ بِهِمَا] (6) بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ»
[«منهاج السنة النبوية» (8/ 362)].
وقال صلى الله عليه وسلم «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»
[«سنن أبي داود» (4/ 330 ط مع عون المعبود)].
[«سنن ابن ماجه» (1/ 15 ت عبد الباقي)].
[«مسند أحمد» (28/ 373 ط الرسالة)«الْمُحْدَثَاتِ»].
فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وجعل خلافتهم إلى مدة معينة، فدل ذلك على أن المتولي في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون، فإنهم خلفوه في ذلك، فانتفى عنهم بالهدى الضلال، وبالرشد الغي، وهذا هو الكمال في العلم والعمل.
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ « أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ أَبِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ »
[«صحيح مسلم» (7/ 110 ط التركية)].
فهذه روايات واضحة من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر بطاعة الصديق وتفويض الأمر إليه.وأما إرشاد النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة إلى بيعة الصديق، فمن ذلك في صحيح مسلم: أن أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – كانوا معه في سفر فذكر الحديث وفيه «فَإِنْ يُطِيعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَرْشُدُوا»
[«صحيح مسلم» (2/ 140 ط التركية)].
وأيضا استخلاف النبي -صلى الله عليه وسلم- للصديق في الصلاة، وهذا متواتر. «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ)»
[«صحيح البخاري» (1/ 236 ت البغا)].
[«صحيح مسلم» (2/ 22 ط التركية)].
وفي حديث ابن مسعود أن عمر قال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يؤم بالناس؟ فأيّكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟، فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر.
قال في أنيس الساري: وحديث ابن مسعود أخرجه ابن سعد (2/ 224 و3/ 178 – 179) وابن أبي شيبة (2/ 330 – 331 و14/ 567) وأحمد (1/ 21 و396) وفي “فضائل الصحابة” (190) ويعقوب بن سفيان (1/ 454) وابن أبي عاصم في “السنة” (1193) ومحمد بن عاصم في “جزئه” (11) والنسائي (2/ 58) وفي “الكبرى” (853) والحاكم (3/ 67) وأبو نعيم في “فضائل الخلفاء” (185) والبيهقي (8/ 152) وفي “المدخل” (56) وابن عبد البر في “التمهيد” (22/ 128 – 129)..الخ”.
[نبيل البصارة، أنيس الساري (تخريج أحاديث فتح الباري)، ٦٦٣٤/٩].
فهذه روايات واضحة في إثبات صحة خلافة الصديق، بغض النظر عن الطريق الذي حصلت به، والقائلون بالنص الجلي «اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالُوا : وَالْخَلِيفَةُ إِنَّمَا يُقَالُ لِمَنِ اسْتَخْلَفَهُ غَيْرُهُ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْفَعِيلَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسْتَخْلَفَ عَلَى أُمَّتِهِ”.
[«منهاج السنة النبوية» (1/ 507)].
فهذه خلافة أبي بكر ثابتة بالنص وأما الإجماع فأشهر من أن يذكر.يقول أبو الحسن الأشعري «وقد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له، وأقروا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي، وسياسة الأمة وغير ذلك»
[«الإبانة عن أصول الديانة للأشعري» (ص252)].
وقال ابن أبي عاصم: «وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَيْعَتِهِ -أي الصديق-، وَعَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاحَ فِيهَا فَسَمَّوْهُ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ وَخَاطَبُوهُ بِهَا»
[«السنة لابن أبي عاصم» (2/ 646)].
وقال ابن حزم: «إجماع الأمة حينئذ جميعا على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم»
[«الإحكام في أصول الأحكام – ابن حزم» (7/ 120)].
وقال ابن عبد البر: “«وأجمعوا أنّ أبا بكر كان يكتبُ: “من خليفةِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-” في كتبه كلِّها»
[«التمهيد – ابن عبد البر» (14/ 71 ت بشار)].
[للتوسع راجع موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (5/ 140)].
وأما إجماع الأمة على بيعة الصديق من كتب الشيعة فالنصوص في ذلك كثيرة منها:
١- الشريف المرتضى قال: “وأما إقراره عليه السلام أحكام القوم لما صار الأمر إليه فالسبب فيه واضح وهو استمرار التقية في الأيام المتقدمة باق وما زال ولا حال وإنما أفضت الخلافة إليه بالاسم دون المعنى وإنما اختاره وبايعه من كان يرى أكثرهم وجمهورهم والغالب عليهم صحة إمامة من تقدم الذخيره في علم الكلام ص 478:وقال: “ومعلوم أن جمهور أصحابه وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة”.
[الشافي في الأمامة – الشريف المرتضى – ج3 – ص144].
وينقل المرتضى الإجماع على بيعة أبي بكر فيقول: “وكيف يمكن أمير المؤمنين عليه السلام الخلاف على من بايعه جميع المسلمين، وأظهروا الرضا به، والسكون إليه؟”.
[الشافي في الإمامة ج3 ص246].
وقال: “وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة، وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى، وتم لهم عليهم كما اتفق من بشير بن سعد ما تم وظهر، وانما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه ان الاجماع قد انعقد على البيعة، وأن الرضا وقع من جميع الأمةوقال: “وكل من حارب معه (ع) في هذه الحروب، إلا القليل كانوا قائلين بامامة المتقدمين عليه (ع) ومنهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة”.
[تنزيه الأنبياء ص188].
٢- الحسن بن موسى، النوبختي : “فصار مع أبي بكر السواد الإعظم والجمهور الأكثر , فلبثوا معه ومع عمر مجتمعين عليهما راضين بهما”.
[تنزيه الأنبياء للشريف المرتضي ص185].
٤- الطبرسي في الاحتجاج، قال: وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع كلمة الناس مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته”.
[ الاحتجاج للطبرسي 1/108].
فكل هذه نقول من علماء الشيعة تؤيد القول بإجماع الصحابة على بيعته.وعليه فليس ثم تناقض الا في رؤوس الشيعة، فخلافة الصديق ثبتت بإشارات واضحة من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم ببيعة الصحابة له وإجماعهم عليه، فجمعت خلافة الصديق بين الخير كله حتى من ناحية الطريق الذي حصلت منه.
والحمد لله رب العالمين.
مواضيع شبيهة
روايات ملكية فاطمة لفدك في حياة النبي ورد أبو بكر لشهادة الشهود.