ذكر تلك الفرية كثير من علماء الشيعة، منهم الحلي في كتابه «نهج الحق وكشف الصدق» قال: «وفي (الجمع بين الصحيحين) في مسند أنس بن مالك، قال: إن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم
أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه. وهذا يدل على سقوط منزلتهما عنده».
[«نهج الحق وكشف الصدق» الحلي (1/339)].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولًا: هذان صاحبا رسول الله ، المقدمان على سائر الصحابة في العلم والفضل، وهما وزيرا النبي ، وصاحبا مشورته، ومحل أمانته، والأحاديث والآثار في فضلهما ومنزلتهما من النبي ، ومن الصحابة، ومن أهل الإسلام أكثر من أن تحصر؛ لذلك كانا لا يفارقان النبي في سلم ولا حرب، وهذا شأن أهل المشورة.روى التّرمذيّ والحاكم وصححه، عن عبد الله بن حنطب : أن رسول الله رأى أبا بكر وعمر ، فقال: «هذان السّمع والبصر».
[صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وانظر: «السراج المنير في ترتيب أحاديث صحيح الجامع الصغير» (2/683)].
قال ابن حزم: «وكان أبو بكر معه لا يفارقه إيثارًا من رسول الله له بذلك، واستظهارًا برأيه في الحرب وأنسًا بمكانه، ثمَّ كان عمر ربما شورك في ذلك أيضًا، وقد انفرد بهذا المحل دون عليٍّ ودون سائر الصّحابة إلَّا في الندرة».
[الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم (4/ 107)].
ومما يدل على أن استشارة النبي كانت في البداية موجهة لأبي بكر وعمر ، رواية الإمام أحمد – بإسناد صحيح على شرط البخاري – عن أنس بن مالكٍ، قال: «استشار النَّبي مخرجه إلى بدرٍ، فأشار عليه أبو بكرٍ، ثمَّ استشار عمر، فأشار عليه عمر، ثمَّ استشارهم، فقال بعض الأنصار: إيّاكم يريد نبيّ الله يا معشر الأنصار…».
[مسند أحمد (20/281)].
وعليه؛ فقد كانت إشارة أبي بكر وعمر في محلها، وإلا لما اتخذهما النبي وزراء ومستشارين له.
ثانيًا: الكلام الذي صدر من أبي بكر وعمر كان تشجيعًا للنبي ، وتقوية له، ونصرة، قال تعالى: [وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)] [الانفال 62]، ومما يدل على أن إشارة أبي بكر وعمر كانت تقوية لقلب النبي ونصرة لدين الله رواية الطبري، وفيها: «… وخرج رسول الله في أصحابه، حتَّى بلغ واديًا يقال له ذفران، فخرج منه، حتَّى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريشٍ بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النَّبي النَّاس، وأخبرهم عن قريشٍ، فقام أبو بكرٍ فقال فأحسن، ثمَّ قام عمر فقال فأحسن، ثمَّ قام المقداد ابن عمرٍو فقال: يا رسول الله امض إلى حيث أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى [{ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ }[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٢٤]، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون، فوالّذي بعثك بالحقّ لئن سرت بنا إلى برك الغماد
[ برك الغماد، مَوضِع بِنَاحِيَة الْيمن، وَقيل: هُوَ أقْصَى حجر. وَقَالَ السهيليّ (2، 65) وجدت فِي بعض كتب التَّفْسِير أَنَّهَا مَدِينَة الْحَبَشَة].
– يعني مدينة الحبشة -لجالدنا معك من دونه حتَّى تبلغه، فقال له رسول الله خيرًا، ثمَّ دعا له بخيرٍ، ثمَّ قال رسول الله : «أشيروا عليّ أيّها النَّاس»، وإنّما يريد الأنصار، وذلك أنّهم كانوا عدد النَّاس، وذلك أنّهم حين بايعوه على العقبة، قالوا: يا رسول الله، إنَّا برآء من ذمامك حتَّى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمّتنا، نمنعك ممّا نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكأنّ
رسول الله خاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلَّا ممّن دهمه بالمدينة من عدوّه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم. قال: فلمَّا قال ذلك رسول الله قال له سعد بن معاذٍ: لكأنّك تريدنا يا رسول الله؟ قال : «أجل…» .
[«تفسير الطبري» (11/ 41 – 43)، و«سيرة ابن هشام» (1/ 606 -615)].
وهذا من أصرح الأدلة على ما ذكرناه من إحسان أبي بكر وعمر في المشورة.
ثالثًا: سبب الإعراض – كما هو واضح – أن النبي كان يريد رأي الأنصار؛ لأنهم أهل الدار والمنعة، ومقتضى بيعتهم في العقبة أنهم يدافعون عن رسول الله في المدينة فقط، ولذلك كان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نَصرَه إلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ من المدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم .
[«فقه السيرة» ص[413]، وللغزالي [230]].
قال الإمام النووي: إنّ رسول الله شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلّم أبو بكرٍ فأعرض عنه، ثمَّ تكلّم عمر فأعرض عنه، فقام سعد ابن عبادة فقال: «إيّانا تريد يا رسول الله، والّذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها لأخضناها».قال العلماء: إنّما قصد اختبار الأنصار؛ لأنَّه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدوّ، وإنّما بايعهم على أن يمنعوه ممّن يقصده، فلمَّا عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنّهم يوافقون على ذلك، فأجابوه أحسن جوابٍ بالموافقة التّامّة في هذه المرّة وغيرها، وفيه استشارة الأصحاب وأهل الرَّأي.
[«شرح صحيح مسلم» النووي (12/ 124)].
ولأجل ذلك كان الإعراض؛ لأن خروج أبي بكر وعمر L للحرب مضمون، وقد تركوا ديارهم وناصروا رسول الله في شتى المواقف.
رابعًا: هل كل من أعرض عنه النبي يكون منافقًا أو كافرًا؟!ثبت في كتب الشيعة أن النبي أعرض عن فاطمة ابنته، ففي (المناقب) لابن شهر آشوب، قال أبو صالحٍ المؤذّن في كتابه بالإسناد عن عليٍّ أنَّ النَّبي دخل على ابنته فاطمة، فإذا في عنقها قلادةٌ، فأعرض عنها، فقطعتها، فرمت بها، فقال رسول الله أنت منّي يا فاطمة، ثمَّ جاءها سائلٌ فناولته القلادة.
[«المناقب» لابن شهر آشوب (3/343)].
والرواية عن موسى بن جعفر عن آبائه .
[«كشف الغمة في معرفة الأئمة» الإربلي (1/ 446)].
إذًا فهل حين أعرض النبي عن فاطمة كانت منافقة، أو كافرة، أو جاهلة كما تزعمون؟!بل وأعرض النبي أيضًا عن سلمان الفارسي .فقد نقل عالمهم نور الله التستري رواية طويلة، وفيها: «قلنا لسلمان: سل رسول الله : من نسند إليه أمورنا، ويكون مفزعنا، ومن أحب الناس إليه؟ فلقيه فسأله، فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه».
[«إحقاق الحق وإزهاق الباطل» التستري (31/319)].
فهل ستقولون في سلمان ما قلتموه في أبي بكر وعمر؟!
مواضيع شبيهة
