قول الله تعالى عن عائشة وحفصة: (فقد صغت قلوبكما).
قال الشيعة: إن الله تعالى ذكر أن عائشة وحفصة صغت قلوبهما والصغو هو الزيغ والزيغ هو الكفر وهذا دليل على كفرهما – عياذًا بالله-.قال علي بن العاملي عن الصادق أنه قال: “… وقال الله فيها -أي حفصة- وفي أختها- عائشة-: «إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما» أي زاغت ، والزيغ : الكفر”.
[ الصراط المستقيم-علي بن يونس العاملي- (3/ 168)].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولا: قد كان طلب التوبة في قوله تعالى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) كان متعلقًا بصغيرة، وليس بكبيرة، وهي من اللمم الذي تكفره الصلاة والصوم والصدقة، ولا تحتاج لتوبة خاصة. والدليل على ذلك: أن القاعدة المطردة في كتاب الله أن التعبير بصيغة الماضي في فعل الشرط يفيد افتراض حصول الفعل مرة واحدة او نادرا وإذا عبر بالمضارع أفاد التكرار والتجدد.
وإليك بعض الأمثلة التي توضح ذلك لتثبيت القاعدة:
قوله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [سورة التوبة 11] فهنا طلب التوبة جاء بالفعل المضارع(تابوا) وليس بالماضي لأن التوبة هنا المقصود بها التوبة العامة من الكفر والتي لا تتكرر كثيرا.
وقوله تعالى: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا ۖ فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا)
[سورة النساء 16]
فهنا عبر بالماضي؛ لأن طلب التوبة يراد به التوبة العامة والتي لا تتكرر فالكبائر الأصل فيها عدم التكرار بخلاف الصغائر، ولذلك وجب التعبير بالماضي لا بالمضارع. وأيضا قال تعالى (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة 112]، وقال تعالى (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا).
[سورة الجن 14]
فهنا عبر بالفعل الماضي (أسلم)؛ لأن معناه الدخول في الإسلام، والدليل على ذلك: أن الآية الأولى كانت في مقابل الموازنة مع اليهود والنصارى فالآية التي قبلها تقول: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فكان الرد على اليهود والنصارى أن النجاة في الإسلام لا غيره بقوله (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) وكذلك الآية الثانية.
وأما في قوله تعالى: (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ ۗ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
[سورة لقمان 22]
في هذه الآية عبر بصيغة المضارع (يُسْلِمْ) ومعناه الخضوع والانقياد وهو عمل يومي يفيد الاستمرار والتجدد.
والمقصود أن قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا): عبر بالمضارع، والذي يقتضي أن ذلك طلب للتوبة الجزئية -لا العامة- العارضة، والتي تتكرر وتكثر من بني آدم بطبيعته، والتي نعبر عنها بالصغائر أو اللمم.
ثانيًا: الصغو مطلق الميل، كما هو معلوم من لغة العرب، ولا يثبت بمجرد ذكر هذه الكلمة معصية لا صغيرة ولا كبيرة، ويكون حسب السياق والحال، فالكفر فيه معنى صغو القلب، وكل معصية ولو صغرت فيها صغو للقلب، بل ومحبة الشيء على خلاف الأولى يدخل في معنى الصغو، وتشبيه صغو قلب المؤمن بالكافر من أعظم الظلم، ومن فعل ذلك لزمه تكفير من وقع في مطلق الصغو وهذا يصدق على كل صغيرة!!
ثالثا: ذكر القلب (قلوبكما)؛ لأنه موضع المحبة لرسول الله ، فعُلِم من هذا أن طلب التوبة إنما كان عن مقتضى المحبة الصحيح، وهذا ليس ذنبًا، بل هو طاعة بنص كلام معصوم الرافضةفعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة تغار على الرجل تؤذيه، قال: ذلك من الحب”
[ الكافي- (5/506)].
، قال المجلسي: “الحديث السادس: موثق”.
[ مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول- (20/ 317)].
فثبت من هذا أن طلب التوبة لم يكن من معصية، وإنما نظرًا لرفعة درجة أمهات المؤمنين طُلِب منهن أن يتبن من حسنة هي في حقهن سيئة -حسنات الأبرار سيئات المقربين-، وعليه فلا يلزمنا فهم الرافضة المنكوس لكتاب الله تعالى.
رابعًا: قال الندوي: “لم تنص الآية الكريمة(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) على الشيء الذي مالت إليه قلوب عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وقد ذكر بعض المفسرين أن قلوبهما – نعوذ بالله- مالت إلى إيذاء الرسول r، بينما القاعدة تقول: إن الكلمة المحذوفة تكون موجودة حوالي الجملة إما قبلها أو بعدها، أو تدل عليها القرائن الغالبة، وقد ذكرت كلمة (التوبة) من قبل، فيغلب الظن أن هذه هي الكلمة المقدرة والمحذوفة، ولو أظهرنا ما حذف من الآية تكون العبارة كالآتي: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما…)”.
[سيرة السيدة عائشة أم المؤمنين- (ص 147)].
فالقلوب مالت إلى التوبة وقد ثبتت تلك التوبة من كتاب الله الذي وعد نبيه أن يكون له نساء هذه صفاتهن (عَسَىٰ رَبُّهُۥۤ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن یُبۡدِلَهُۥۤ أَزۡوَاجًا خَیۡرࣰا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَـٰتࣲ مُّؤۡمِنَـٰتࣲ قَـٰنِتَـٰتࣲ تَـٰۤىِٕبَـٰتٍ عَـٰبِداتࣲ سَـٰۤىِٕحَـٰتࣲ ثَیِّبَـٰتࣲ وَأَبۡكَارࣰا).
[سورة التحريم 5]
فالآية نصت على أن النبي لا يليق به إلا نساء هذه صفاتهن ومن تلك الصفات “تَـٰۤئِبَـٰتٍ” فلما تيقنا أن النبي علمنا أن هذه صفات نسائه، ومن تلك الصفات التوبة، فهذا إثبات لتوبتهن من كتاب الله، أما السنة فقد ثبت أن النبي دعا لأم المؤمنين عائشة، فقال كما في صحيح ابن حبان: “عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ طِيبَ نفسٍ قُلْتُ يارسول اللَّهِ ! ادعُ اللَّهَ لِي! فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تأخَّرّ مَا أسرَّت وَمَا أَعْلَنَتْ) فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجرِها مِنَ الضَّحِكِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : (أيسُرُّك دُعَائِي)؟ فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يسُرُّني دُعَاؤُكَ؟ فَقَالَ : (وَاللَّهِ إنها لدُعائي لأُمتي في كُلِّ صلاة). قال الشيخ الألباني “حسن”.
[ التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان- (10/197)].
وعن أبي إسحاقَ، عن صِلَةَ، عن حُذَيفَةَ أنَّه قال لامرأَتِه: إن سَرَّكِ أن تَكُونِي زَوجَتِي في الجَنَّةِ فلا تَزَوَّجِي بَعدِي؛ فإِنَّ المَرأَةَ في الجَنَّةِ لِآخِرِ أزواجِها في الدُّنيا، فلِذَلِكَ حَرُمَ على أزواجِ النَّبِيِّ أن يَنكِحنَ بَعدَه؛ لأنَّهُنَّ أزواجُه في الجَنَّةِ“.([6])
[ السنن الكبرى للبيهقي- ت التركي- (13/561)].
وعند الشيعة في (بحار الأنوار)؛ قال : “زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة”، والجنة محرمة على الكافرين، ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة، والله تعالى أكرم زوجاته إذ جعلهن أمهات المؤمنين، والكافرة لا تصلح لذلك، لأن هذه أسوة الكرامة، ولقوله تعالى: “ إنما المشركون نجس”، ولقوله: ” كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي”، وذلك لا يصح في الكافرة“.
[ بحار الأنوار- (16/389)].
فإذا تقرر ما سبق فقد ثبت أن الله قد تاب عليهن، وكرمهن في الدنيا والآخرة، والذنب شأن بني آدم، ومن عيَّر مؤمنا ابتلي بما عيره به، عقوبة له على جرمه، كما جاء في كتاب (عين الحياة) للمجلسي، قال: “وروي بسند معتبر عنه (ع) أنّه قال: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها، ومن عيّر مؤمناً بشيء لم يمت حتى يركبه“.
[ الكافي- (2/ 356 ح 2)- باب التعيير].
والحمد لله رب العالمين.
مواضيع شبيهة
فتح عائشة رضي الله عنها لكوة في قبر النبي .