أذاعت وأفشت سرّ رسول الله
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ)
[التحريم: 1 – 4].
قال صالح الورداني: “وحفصة وعائشة هما اللتان أفشيتا سر الرسول (ص) وتظاهرتا عليه ونزلت فيهما آيات سورة التحريم”
[دفاع عن الرسول ضد الفقهاء والمحدثين، صالح الورداني، (ص 77)].
والجواب على هذه الشبهة من وجوه:
أولًا: عائشة وحفصة مع النبي في الجنة، فقد أخرج الترمذي وحسنه.
[ سنن الترمذي، ت شاكر، (5/ 704)].
وصححه الألباني
[صحيح وضعيف سنن الترمذي، الألباني، (8/ 380)].
أن جبريل قال للنبي : “إن هذه زوجتك في الدنيا والآخرة“.
وكان عمار بن ياسر يحلف يقول: “أن عائشة رضي الله عنها زوجة رسول الله في الدنيا والآخرة“.
[صحيح البخاري، (9/ 56)].
ثانيًا: إفشاء السر وقع من حفصة لا من عائشة بإجماع المفسرين، فقد صح عن ابن عمر، عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: ” لا تخبري أحداً، وإن أم إبراهيم علي حرام “. فقالت: أتحرم ما أحل الله لك؟ قال: ” فوالله لا أقربها “ قال: فلم يقربها حتى أخبرت عائشة، قال فأنزل الله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}. أخرجه الهيثم بن كليب في مسنده قال : حدثنا أبو قلابة عبد الملك الرقاشي، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمره، قال الحافظ ابن كثير في تفسيره | 456/4: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسی في كتابه المستخرج، وذكره ايضا السيوطي في [الدر المنثور 8/216].
وقد جاء الحديث مفصلا من حديث ابن عباس عن عمر في الصحيحين وغيرهما، والمقصود أن إفشاء السر إنما كان من حفصة لا من عائشة، ويخطئ من يحمل أفعال الصحابة على العصمة، فيجعل الإخلال بمقتضى المحبة والتي غاية ما يمكن الحمل عليه من الشناعة أن تدخل تحت الصغائر، فيأتي مُشغب ويؤرهج بخيله ورجله ليصور الصغيرة كفرا وخروجا على الملة، إن النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد أن ذكر لها -بحب وكرم النبوة- انها أفشت سره علمت أنها وقعت في أمر لا يجوز الوقوع فيه، بعد أن استأمنها رسول الله صلی الله عليه وسلم ، وطلب منها عدم إفشائه، ولهذا كان موقفها موقف الضعيف المدافع عن تصرف خاطئ، وهي الآن تريد أن تلقى التبعة على من أفشت إليها سرها ظنا منها أنها هي التي أباحت بالسر
قالت : من أنبأك هذا؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب لينفي هذا الظن، ويؤكد خطأ التصرف الذي صدر منها، ليتخذ القرار الحازم في الجزاء، فإن أمرا عظيما مثل هذا قد يهدد الحياة الزوجية برمتها، ويقضي على استقرارها- لا ينبغي أن يمر بغير جزاء
فما هو الأسلوب الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذا الخطر العظيم، والموقف الجلل؟ هل ضرب؟ هل طلّق؟ هل كفّر زوجته كما يفعل الرافضة؟ لا وألف لا بل استعمل أسلوب الهجر للتأديب، وهو أسلوب تربوي هادف، وآتى أكله بفضل الله وطبق النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه تلك الآية التي جاءت تعقيبا على تلك الأحداث (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ)
[سورة التحريم 6].
فهذا واجب النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وقد طبقه على أكمل وجه ولزم من هذا أنه صلى الله عليه وسلم نجح في تلك التربية ووقى نفسه وأهله ومنهم(عائشة وحفصة) ناراً وقودها الناس والحجارة .
ثالثًا: الغيرة بين أزواج النبي حاصلة في حياة النبي ، وكان يرى ذلك ويبتسم ويقرهن على هذا؛ لأن هذا من طبائع النساء، ولم يغضب رسول الله من غيرتهن.
وقد جاء في الكافي ٥/٥٠٦ عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): المرأة تغار على الرجل تؤذيه، قال: ذلك من الحب.قال المجلسي عن الحديث: موثق.
[اسم الکتاب : مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول المؤلف : العلامة المجلسي الجزء : 20 صفحة : 317].
فهل يطعن عاقل في محبة المسلم لنبيه؟ فضلا عن زوجة النبي التي من لوازم محبتها لزوجها غيرتها عليه، وأنعِم بها من غيرة.
رابعًا: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة، فيكونان قد تابتا منه، وهذا ظاهر لقوله قال تعالى: (إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ )
[التحريم: 4].
فدعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يُظن بهما أنهما لم تتوبا، مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبيّنا في الجنة، وأن الله خيَّرهُنَّ بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة؛ ولذلك حرّم الله عليه أن يتبدّل بهن غيرهن، وحرم عليه أن يتزوج عليهن، ومات عنهن وهنّ أمهات المؤمنين بنص القرآن. ثم قد تقدّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة.وأما الزيغ فهو في هذه المسألة ليس زيغا عن الاسلام إلى الكفر.
قال العظيم آبادي: “(فَقَدْ صَغَتْ) زَاغَتْ وَمَالَتْ (قُلُوبُكُمَا) عَنِ الْحَقِّ وَعَنِ الْوَاجِبِ فِي مُخَالَصَةِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ حُبِّ مَا يُحِبُّهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَكْرَهُهُ.
[ عون المعبود وحاشية ابن القيم، العظيم آبادي، (10/ 127)].
خامسًا: الرسول لم يطلقهما بعدما علم ذلك منهما بل أقر زواجهما منه، وحاشاه أن يقر ببقائهما ولا يطلقهما إن كان الأمر يستحق ما ينفخ فيه الرافضة؛ لأنه يلزم من هذا الطعن بالنبوة وأن الرسول لم يطلق من تستحق الطلاق.
فلو كان منهما ما يوجب الكفر لطلقهما النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجوز للمسلم فضلاً عن النبي أن يمسك الكوافر، قال تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)، وأن يجعل في ذمته الكافرات المشركات؛ لقوله تعالى (لا هن لهن حل لهم ولا هم يحلون لهن).قال القمي في تفسيره (سورة الممتحنة) عند قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر): “عن أبي جعفر قال: من كانت عنده امرأة كافرة، يعني على غير ملة الإسلام وهو على ملة الإسلام، فليعرض عليها الإسلام، فإن قبلت فهي امرأته، وإلا فهي بريئة منه، فنهى الله أن يمسك بعصمتها“.
[تفسير القمي، (2/ 344)].
بل بالعكس من ذلك، عاملهن بكل لطف، قال ناصر مكارم الشيرازي: “وكان تعامل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معهنّ على العكس من ذلك تماماً إلى الحدّ الذي لم يذكر لها السرّ الذي أفشته كاملا لكيلا يحرجها أكثر، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه”.
[تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، (18/ 297)].
سادسًا: لم يمنع الحق عمر أن يقول «هما عائشة وحفصة» وذلك عندما سئل عن معنى هذه الآية، فلو كانت الآية فيها مثلبة لهما، أكان عمر ليفضح ابنته؟
سابعًا: المذكور عن أزواجه كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ بَنِى هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُوا فِي أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ فَلاَ آذَنُ، ثُمَّ لاَ آذَنُ، ثُمَّ لاَ آذَنُ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِى وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِي بَضْعَةٌ مِنِّى، يُرِيبُنِي مَا أَرَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا»
[ صحيح البخاري، (7/37)، صحيح مسلم، (4/ 1902)].
فإن عليًّا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة ، فلا يُظنّ بعليٍّ أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
ثامنا:من باب الإلزام لهم بما يعتقدون ويفهمون نقول: إن فاطمة أفشت سر رسول صلى الله عليه وسلم ، يقول شيخهم الأنصاري: “ولذلك لم تفش فاطمة الزهراء (عليها السلام) سر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا بعد وفاته حينما أسر إليها: أنه ميت من مرضه ذلك، وأنها أول من يلحق به من أهل بيته”.
[الموسوعة الفقهية الميسرة المؤلف : الأنصاري، الشيخ محمد علي الجزء : 4 صفحة : 288]
فهلّا طبقوا على فاطمة ما أسقطوه من أحكام وبذاءات على أمهات المؤمنين؟ ولئن قال قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد مات قلنا سره يتعلق بأمر لم يحدث بعد وهو أن فاطمة تكون اول أهل بيته لحوقا به،فإذا أسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وجب كتمان سره كلازم لأفهام الشيعة، فنحن نرى أن جعفر السبحاني عاب على معاذ أنه بلغ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوارد في الصحيحين من حديث: “أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: يَا مُعَاذُ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا. قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: إِذًا يَتَّكِلُوا. وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا».
[«صحيح البخاري -ط السلطانية» (1/ 37)].
[«صحيح مسلم» (1/ 61)]
ذكر جعفر السبحاني هذا الحديث تحت عنوان “إفشاء سر النبي” فإذا عُدّ بلاغ الدين من إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يعد بلاغ أمر خاص يخص صاحبه لا يتعلق بدين الناس؟
مواضيع شبيهة